للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العبادة التي أمر الله بها في كل الأوقات]

كل عبادة ربطت بوقت، فالصلاة كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:١٠٣]، حتى النافلة نمنع عنها في أوقات الكراهة، والحج له وقت، والصيام له وقت، حتى الصيام توجد أيام يحرم علينا أن نصومها، وهكذا كل عبادة لها وقت محدود، أما الذكر فهو العبادة الوحيدة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها في كل الأوقات والأحوال والأحيان قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:١٠٣]، فمعناها: فاذكروا الله في كل أحوالكم؛ لأن الإنسان إما قائم، وإما قاعد، وإما مضطجع، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء: (اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تشمت بي عدواً حاسداً).

فاذكر هذا يعم جميع أحوال الإنسان، وقد أمر الله بالإكثار من الذكر بقدر المستطاع كما قال الله: ((اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) قال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:٣٥] وهكذا.

فالذكر والفكر ينبغي أن يكونا في جميع الأوقات أو أكثرها؛ لأن النفس إذا تركت إلى طبعها فإنها بطبعها مائلة إلى ملاذ الدنيا، فإن صرف العبد شطر أوقاته في تدبير الدنيا وشهواتها المباحة مثلاً، والشطر الآخر إلى العبادات، فإن الطبع يرجح جانب الميل إلى الدنيا؛ لأن هذا يوافق الطبع والهوى، فإذا كان الوقت متساوياً، للدنيا نصف الوقت، وللدين أو ذكر الله النصف الآخر، فيأتي الهوى ويرجح خدمة الدنيا، فإذا كان الوقت متساوياً فأنى يتقاومان والطبع يرجح أحدهما؟! إذ الظاهر والباطن يتساعدان على أمور الدنيا، ويصفو في طلبها القلب ويتجرد، فهذه كلها ترجح جانب الميل، ونحن قلنا: إن الوقت نصف للدنيا ونصف للذكر، فالنصف الذي للدنيا هو الذي سيغلب؛ لأن الطبع يميل للدنيا، وظاهر الإنسان وباطنه يتعاونان معاً في تحصيل أمور الدنيا، والقلب إذا طلب أمور الدنيا يصفو بطلبها ويتجرد لها، أما رد النفس إلى العبادات والذكر فلا يكون إلا بتكلف ومجاهدة، ولا يسلم إخلاص القلب فيه وحضوره إلا في بعض الأوقات، حتى الصلاة نفسها التي هي من النصف الآخر الديني، فكم من الناس من يدخل في الصلاة الدنيا، ويسبح في أودية الدنيا داخل الصلاة! حتى إن بعض الناس -وهذا من تلبيس إبليس- تتراكم عليه كل مشاكل الدنيا إذا دخل في الصلاة، من بداية تكبيرة الإحرام ولا تنتهي إلا مع التسليم، فهذا مما يدل على أن هذه وظيفة متخصصة للشيطان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوجد شيطان متخصص للوسوسة في الصلاة، فإذا دخلت في الصلاة يظل يذكرك بكل شيء نسيته، حتى تنصرف عن التفكر والتدبر في ذكر الله سبحانه وتعالى، والخشوع في الصلاة، فهذا واضح جداً أن هذا من الشيطان؛ أولاً: لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام.

ثانياً: لأنه مجرد ما تسلم تنتهي المشاكل كلها، فلماذا الوسوسة في الصلاة بالذات؟! إذاً: هذا من كيد الشيطان للإنسان، فحتى العبادات لا تخلو من الوسوسة.

بالمناسبة أذكر أحد الإخوة من الأطباء الكبار في الأمراض النفسية يعمل في المدينة، فكان يتكلم على أن من ضمن أساليب العلاج الخاص بالناس الذين يعانون الوسوسة: أن يربط كل ركعة بشيء معين، فمثلاً نقول له: الركعة الأولى تربطها بحاجة، الركعة الثانية تربطها بشيء، بحيث تذكر الجلسة فلا تسهو في الصلاة، فالمهم يقول: كنت في أحد المساجد في المدينة النبوية الطيبة، فالناس صلوا العشاء أو غيرها من الصلوات الرباعية فاختلفوا مع الإمام، هل صلى أربعاً أو صلى خمساً، بعدما انصرفوا من الصلاة اختلفوا، فأحد المصلين حلف أنهم صلوا أربعاً، قالوا له: كيف عرفت؟ قال: لأن عندي أربعة دكاكين، وأراجع حساب كل دكان في ركعة، فأنا راجعت حساب الدكاكين الأربعة في الصلاة! فهو مخصص كل ركعة في محل من أجل أن يراجع الحسابات، والله المستعان! فالشاهد: أن الإنسان عندما يطلب الدنيا قلبه يصفو لها تماماً، وعندما يطلب الآخرة تعتدي الدنيا عليه حتى في الوقت المخصص للآخرة، هذا إذا سلمت من الآفات كالرياء والبدعة وغير ذلك من الشوارد، فإذا قسمنا الوقت نصف للدنيا ونصف للذكر فإنه سيتغلب جانب الدنيا؛ لأن الهوى والطبع وشح الأنفس يجلب الإنسان دائماً إلى الدنيا، فالكفة ستأتي من ناحية الدنيا.

أما العبادات فالإنسان لا يستقيم عليها إلا بتكلف ومجاهدة، وحتى إخلاص القلب لا يسلم إلا في بعض الأوقات دون البعض، فمن أراد أن يدخل الجنة بغير حساب فليستغرق أوقاته في طاعة الله سبحانه وتعالى، ومن أراد أن تترجح كفة حسناته، وتثقل موازين خيراته، فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته.

نحن لا نقول: يضيع واجباته الدنيوية؛ لكن نقول: الذكر عبادة يمكن أن تستصحب في كل الأحوال، وفي الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) أي: في كل الأحوال، فالمؤمن يذكر الله حتى وهو يشتغل شغلاً ميكانيكياً بآلة أو بيده، فما أسهل أن يشتغل لسانه بذكر الله، حتى إن عجز عن لسانه كما يكون مثلاً في حالة الخلاء فإنه يشتغل بالذكر بقلبه، كان جد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إذا دخل الخلاء جعل الكتاب في يد أحد أبنائه، ويقول له: قف عند الباب واقرأ بصوت عال، حتى يغتنم الوقت الذي يقضيه في الخلاء في الاستفادة، فهو يمتنع من القراءة؛ لكن حفيده يقف عند الباب ويقرأ عليه بصوت عال! إذاً: لا بد أن يترجح وقت الذكر على أوقات الدنيا، حتى الإنسان إن كان مشتغلاً في الدنيا فهو يستطيع أن يشغل لسانه دائماً بذكر الله سبحانه وتعالى، وهو يمشي في الطريق، وهو يركب المواصلات؛ حتى يترجح جانب الدين على الدنيا.

والدنيا هي سعي في طلب الرزق، والرزق مضمون؛ لكن الآخرة غير مضمونة، الجنة غير مضمونة، أما الزرق فالله سبحانه وتعالى قال فيه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:٦]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه، لأدركه رزقه كما يدركه أجله) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فالرزق مضمون تماماً، وقال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب)، وقال: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها).

فالرزق مكتوب ومضمون، ولا يمكن أبداً أن ينقص رزقك شيئاً، فنحن نشتغل بالمضمون عن غير المضمون، فالله قال في الآخرة: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:٣٩ - ٤١]، فنحن نجتهد بما هو مضمون عما ليس بمضمون، فمن أراد أن تترجح كفة حسناته، وتثقل موازين خيراته؛ فليستوعب في طاعة الله أكثر أوقاته، فإن لم تكن من أهل البصيرة فانظر إلى خطاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، واقتبسه بنور الإيمان، فقد قال تعالى لأقرب عباده إليه، وأرفعهم درجة لديه: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:٧ - ٨]، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان:٢٦].

وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:٣٩ - ٤٠].

وقال عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:٤٨ - ٤٩].

وقال تعالى: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:١٣٠].

وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤].

ثم انظر كيف وصف الله سبحانه وتعالى الفائزين من عباده، وبماذا وصفهم؟! قال عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩].

وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:١٦].

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:٦٤]، وقال عز وجل: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:١٧ - ١٨].

وقال سبحانه: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:١٧] يعني: فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون.

وقال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:٥٢].

إذاً: الطريق إلى الله سبحانه وتعالى هو مراقبة الأوقات، وعمارتها بالأوراد على سبيل الدوام، فالذكر المقصود منه تغيير الصفات وترقيق القلب، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله عز وجل)، وهذا التأثير لا يتأتى بأن يأتي الإنسان بذكر ثم ينقطع، ولا يحدث تأثيراً في القلب إلا بالمدوامة ولو بالقليل؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى أدومه وإن قل)، فالذكر القليل مع الدوام يؤثر، وعند الان