للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استعمال النبي صلى الله عليه وسلم الحلف لتأكيد القول]

قوله: (والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت).

قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده) فيه استعمال اليمين لتأكيد القول، فيكون أدعى إلى القبول، وقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعاً، بعدة صيغ منها هذه الصيغة: (والذي نفسي بيده)، والحلف يكون بالله سبحانه وتعالى، أو بأفعال الله عز وجل، أو أسمائه وصفاته، فالحلف عبادة من العبادات القولية، فلا ينبغي أن يحلف إلا بالله؛ لأن الحلف عبادة، والحلف بالله عز وجل يتضمن إخباراً لأمور عدة، يتضمن إخباراً بأن الله سبحانه وتعالى الذي تحلف باسمه هو المطلع على ما في قلبك، والعالم بصدقك، وهو الذي يثيبك إن كنت صادقاً، ويعاقبك إن كنت كاذباً في هذا اليمين، فهذه الصفات كلها ليست من شأن البشر، وإنما هي لله سبحانه وتعالى، فلذلك لا يجوز الحلف إلا بالله عز وجل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال: (من قال: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله)، فكفارة اليمين بغير الله أن يقول الإنسان مباشرة بعدها: لا إله إلا الله، فلا يجوز الحلف بغير الله حتى ولو كان من الملائكة أو من الرسل أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمين المصريين المشهورة: (والنبي)، وهذا لا يجوز ولا يرضاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحلف بغير الله شرك، فضلاً عمن يحلف بتربة أمه وتربة أبيه، وشرفه وأولاده وحياته إلى آخر هذه الأيمان، كل هذا مما لا يجوز.

قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة) فالحلف لا ينبغي أن يكون إلا في الأمور العظيمة التي تليق باسم الله عز وجل، وليس في كل شيء يحلف فيه الإنسان، فإنما الحلف في الأمور العظيمة الجليلة؛ لأن بعض الناس يتمادون في الحلف بطريقة شديدة جداً، وبعض الناس كما هو حال النصارى بالعكس تماماً يتحرجون جداً من الحلف، ويقول لك: صدقني! صدقني! لأنهم ينظرون إلى أن الحلف شيء غير رجولي! لا، الحلف عبادة، ففيها تعظيم لله عز وجل مادامت في موضعها، ومادامت في الأمور الجليلة والعظيمة، فلا حرج على الإطلاق من الحلف إذا كان في موضعه، وفيه تعظيم لله، ولا تحلف في الأمور التافهة أو الحقيرة، فهذا من تعظيم اسم الله عز وجل ألا يحلف به إلا في الأمور الجليلة.

ويعفى عما كان لغواً وهو الذي لا يقصده ولم يعقد عليه القلب، كقولك للرجل: لا والله، تعال والله، نعم والله إلى آخره.

(والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة) أي: خصلة (يعظمون بها حرمات الله) أي: من ترك القتال في الحرم، وفي رواية ابن إسحاق: (لا يسألونني بها صلة الرحم) ولا شك أن الرحم من جملة حرمات الله، وقيل: المراد بالحرمات حرمة الحرم؛ لأنهم كانوا داخل حدود الحرم، وفي حرمة الشهر الحرام؛ فهم خرجوا في ذي القعدة، وكانوا في حالة إحرام، وفي الشهر الحرام، وفي البلد الحرام.

وهذا القول الأخير فيه نظر، وهو: أن المقصود بالحرمات حرمة الحرم، وحرمة الشهر، وحرمة الإحرام؛ لأن المشركين لو عظموا الإحرام لما صدوه عن دخول البيت، فهو قال (لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله) فالضمير يعود على المشركين، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن أي خطة يعرضوها عليه فيها تعظيم لحرمات الله أجابهم إليها، فلو كان هذا القول راجحاً، فما الذي يعظمه المشركون؟! فدل هذا على أنه ليس هذا هو المقصود.