للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة]

قوله: (فبينما هم كذلك) هذا فصل آخر من قصه الحديبية.

(فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول).

قول الراوي: (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل) (فبينا هم) وفي رواية أخرى: (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل) وبديل هذا صحابي مشهور، (في نفر من قومه، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم) العيبة: ما توضع فيه الثياب لحفظها.

والمقصود: أنهم كانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أنهم كانوا موضع النصح له والأمانة على سره، وكأنه شبه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب؛ لأن موضع إيداع الأسرار هو الصدر، فشبه موضع استيداع السر الذي هو الصدور من الإنسان بالعيبة التي هي موضع حفظ الثياب، فهذا معنى: (وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: يأتمنهم على أسراره، وكانوا ينصحون له، وهم من أهل تهامة.

وزاد ابن إسحاق في رواية: (وكانت خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها لا يخفون عليه شيئاً كان بمكة).

إذاً: كان هناك حلف مع خزاعة بمؤمنيها وكافريها، كلاهما كان ناصحاً لرسول الله عليه السلام، فمعنى هذا الكلام أن خزاعة المؤمنون منهم كانوا عيبة نصحه، وأيضاً المشركون كانوا في حالة حلف مع النبي عليه السلام، وكانوا موالين له مع كونهم مشركين.

ووقع عند الواقدي: أن بديلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (لقد غزوت ولا سلاح معك، فقال: لم نجئ لقتال، فتكلم أبو بكر، فقال له بديل: أنا لا أتهم ولاء قومي)، وكان الأصل في موالاة خزاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن بني هاشم في الجاهلية تحالفوا مع خزاعة، فاستمر هذا الحلف حتى بعد الإسلام؛ لأن رسول الله عليه الصلاة والسلام من بني هاشم، وهذا يؤخذ منه حكم شرعي، وهو جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة، فيمكن أن يستنصح المعاهد أو الذمي إذا دلت القرائن على نصحهم، وشهدت التجربة إيثارهم أهل الإسلام على غيرهم ولو كانوا من أهل دينهم.

ويستفاد منه جواز استنصاح بعض ملوك العدو استظهاراً على غيرهم، ولا يعد ذلك من موالاة الكفار ولا مودة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم، وتقليل شوكة جمعهم، وإنكاء بعضهم ببعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق، فالاستعانة هنا بالرأي فقط والمشورة والاستنصاح، بشرط أن تدل القرائن على نصحهم، وأن تشهد التجارب بأنهم يميلون ويفضلون أهل الإسلام على غيرهم من الكفار حتى ولو كانوا من أهل ملتهم.

يقول: (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية) اقتصر على ذكر هذين (إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي) لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمع ترجع أنسابهم إلى هذين الشخصين، فيقول: (إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية) الأعداد: جمع عد، وهو الماء الذي لا انقطاع له، فهم سبقوا إلى الأماكن التي فيها الآبار والمياه الجوفية التي لا تنقطع، فهذا يشعر بأن الحديبية كان فيها مياه كثيرة، وأن قريشاً سبقوا إلى النزول عليها، فلهذا عطش المسلمون حين نزلوا على الثمد المذكور.

قوله: (ومعهم العوذ المطافيل) وفي بعض الروايات: (وجمعوا لك الأحابيش) قلنا: التحبيش هو: التجمع، والعوذ: جمع عائذ، وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالها، والإنسان يسر جداً إذا قرأ الأحاديث الطويلة، فهذه الأحاديث الطويلة تجد فيها متعة الفصاحة، وحلاوة اللغة العربية، ومن هذه الأحاديث الطويلة حديث الإفك، وحديث سمرة بن جندب في عذاب القبر، وحديث أم زرع وهكذا، فتجد فيها طعم اللغة العربية التي نحن محرومون منها الآن في وسط هذا الركام الهائل من الركاكة والعجز والجهل في العربية والعدوان عليها، ففعلاً نحن نحب تذوق اللغة العربية عندما تطول هذه النصوص الرائعة، ونحس أننا نكاد نكون أعاجم حينما نضطر كثيراً لشرح الغريب لتقصيرنا في حق لغة القرآن! فقوله: (ومعهم العوذ المطافيل) العوذ كما قلنا: هي النوق ذوات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالها، يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها، ولا يرجعوا حتى يمنعوه، فمعنى: (معهم العوذ المطافيل) أنهم أتوا إلى الحديبية ومعهم النوق ذوات اللبن، حتى يشربوا من ألبانها إذا طالت مدة الإقامة هناك، وهذا فيه كناية على إصرارهم، وعلى عدم السماح له الصلاة والسلام بالدخول إلى مكة، وأنهم لن يرجعوا حتى يمنعوه، أو أن المقصود بقوله: (ومعهم العوذ المطافيل) أنه كنى بذلك على النساء ومعهن الأطفال، والمراد: أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقامة، وليكون أدعى إلى عدم الفرار، ويحتمل إرادة المعنى الأعم، ويؤيده أن في بعض الروايات: (معهم العوذ المطافيل والنساء والصبيان).