للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم)]

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح:٢٤].

قيل: أراد بكف اليد أنه شرط الكتاب: أن من جاءنا منهم فهو مردود عليهم، فخرج أقوام من مكة مسلمون وخافوا أن يردهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المشركين، فلحقوا بالساحل ومنهم أبو بصير، وجعلوا يغيرون على الكفار ويأخذون عيرهم، حتى جاء كبار قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: اضممهم إليك حتى نأمن، ففعل.

فهذا معنى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} يعني: عن طريق صلح الحديبية، فقد كان أحد الشروط أن من أتى الرسول صلى الله عليه وسلم مسلماً يرده إلى الكفار، فقدر الله سبحانه وتعالى أن تحصل قصة أبي بصير المعروفة، حيث شكل حرب عصابات على ساحل البحر، فكانوا يتعرضون لكل قافلة تأتي من قريش؛ حتى صرخ المشركون وفزعوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، يطلبون التراجع عن هذا الشرط، فهذا كحكم كوني قدري هو كف من الله.

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ}.

وقوله: (ببطن مكة) فيه قولان: أحدهما: يريد به الله مكة نفسها.

القول الثاني: إنها الحديبية؛ لأن بعض مكة مضاف إلى الحرم، وحتى لو لم يسلم هذا فالقرب التام كاف؛ لأن الحديبية قريبة جداً من مكة، ويكون إطلاق بطن مكة عليها مبالغة، ((وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ)) يعني: بالحديبية.

قوله: ((مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ)) يعني: بفتح مكة، وتكون هذه نزلت بعد فتح مكة، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحاً؛ لقول الله عز وجل: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ)) يقول القرطبي: والصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة، حسب ما قدمناه عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين، وروى الترمذي بسنده عن ثابت عن أنس: (أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح، وهم يريدون أن يقتلوه، فأخذوا أخذاً، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ))).

وأما فتح مكة فالأدلة تدل على أن مكة فتحت عنوة وليس صلحاً.

((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ)) يعني: إشارة إلى أمر كان هناك يقتضي عدم الكف، ومع ذلك وجد كف الأيدي، ذلك الأمر هو دخول المسلمين ببطن مكة، فإن ذلك يقتضي أن يصبر المكفوف على القتال لكون العدو داخل دارهم طالبين ثأرهم، وذلك مما يوجب اجتهاد البليد في الذب عن الحريم.

يعني: كنتم في بطن مكة في عقر دار المشركين، فلاشك أن الخوف يكون أكثر؛ لأنهم أقوى وأكثر عدداً وعدة، ثم إن بطن مكة فيها حريمهم ونساؤهم وأولادهم، فتكون الحمية في الدفع والقتال أشد، والحرص على الفتك بالمسلمين أشد، ومع ذلك فإن الكف وجد بمشيئة الله سبحانه وتعالى؛ لذلك نسبه إلى فعله عز وجل فقال: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ)) يعني: مع أنكم كنتم في بطن مكة، على أرضهم، وبين بنيهم ونسائهم، وكل هذه دوافع إلى شدة الحمية في قتال المسلمين، ومع ذلك امتن الله عليهم بأن كف أيديهم عنكم.