للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذم السلبية والتقاعس عن الواجبات الشرعية]

وقال الطبري: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه، ولزوم المنازل، لما أقيم حد ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المؤمنين، وسبي نسائهم وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم، ويكف المسلمون أيديهم عنهم، وذلك مخالف لما جاء في الأثر: (خذوا على أيدي سفهائكم).

فمسألة الاحتجاج بأن الإنسان يعتزل الفتنة ولا يقاتل لا مع هذا ولا مع ذاك، وأن له ألا ينحاز إلى الإمام الحق لا تجوز؛ لأنه لو عمم هذا الأمر وتحرج جميع المسلمين من قتال الفئة الباغية لأنهم مسلمون، وأن قتال المسلم كفر، فسوف تعلو كلمة أهل الفساد، ويكون الفساد العريض، وهذه التربية رأينا نماذج لها، وهي أسوأ ما تكون في أوضاعنا المعاصرة الآن، هي السلبية والهروب من مواجهة المحن بالمنهج الشرعي الصحيح والسليم.

ونجد في تراجم العلماء والصالحين والأئمة شيئاً يمكن أن يوصف بالسلبية، لكن هو في الحقيقة ليس سلبية، فمثلاً عمر بن عبد العزيز كان يخطب على المنبر فكأنه داخله شيء في نيته أو خشي على نيته وإخلاصه، فمزق الكتاب وقطع الخطبة ونزل، فممكن أن شخصاً إذاً يقول: أنا هذا الوقت لا أقدر أن ألقي دروساً ولا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر؛ لأنه قد يكون في نيتي شيء.

يأتون بكلام في تراجم عشرات من الأئمة أنهم كانوا يكرهون على القضاء، والإمام مالك، جلد، والإمام أبو حنيفة جلد لكي يقبل القضاء، فأبى وهرب من القضاء إلى آخره، ومن راجع مقدمة كتاب الخراج لـ أبي يوسف رأى أنه أثبت رسالة طويلة جداً من سفيان الثوري إلى صديقه القديم هارون الرشيد قبل أن يلي الخلافة، لكنه قاطعه وخاصمه عندما قبل تولي الخلافة؛ لأنه بذلك سوف يقع في شيء من الانحراف عن المنهج السابق، وانحياز إلى الحكام وكذا.

وفي الحقيقة هذا كلام مستساغ في زمانهم؛ لأن الأمة كأمة هي موجودة ومتظافرة، وإذا تقاعس أو انحاز أو انسحب شخص فهناك عشرات بل مئات بل آلاف في امتداد رقعة العالم الإسلامي يخلفونه في هذه الوظيفة، ويؤدى بها فروض الكفايات، فلا يحصل خلل في المسيرة العامة للأمة، أما الآن فلا يصح لأحد أن يحتج بهذه المواقف التي يمكن أن توصف تجاوزاً بأنها سلبية؛ لأن الفقهاء كانوا أعقل وأعلم وأورع من أن يتواطئوا على ترك الخلافة من أجل الإعراض عن الدنيا، وترك القضاء والهروب من المناصب الشرعية.

إذاً: من يقيم الشرع في الناس؟ فيعلو أهل الفسق ويغلب الكفار المسلمين، ويغزونهم في ديارهم، ففي ذلك الوقت لم تكن هذه الخطورة قائمة، أما العلماء فما من أحد منهم إلا ونعلم أنه لو كان قد تعين عليه شيء لما تركه، لكن قد يترك أحدهم منصباً لأن هناك مئات وآلاف العلماء والقضاة والمجتهدين في كل بقاع العالم الإسلامي، فهو مطمئن إلى أن فرض الكفاية سوف تسد ثغرته، وهو يرى نفسه أضعف من أن يلي هذا الأمر، ويخشى الحساب يوم القيامة، للأحاديث التي جاءت في الترهيب من ولاية القضاء مثلاً، وليس معنى ذلك أن ينسحب المسلمون عن بكرة أبيهم ليكونوا سلبيين.

ونحن قد رأينا في آخر دعوة تجديدية في القرن الثاني عشر كيف كان الأمر عندما ضم التحالف عنصراً سياسياً مع عنصر العلم الشرعي، ولكن لما انفصل الاثنان حصل بمرور الزمن الافتراق والفجوة بينهما، بل وهناك فئة جذبت الأخرى معها؛ لأنه كان أتباع الإمام المجدد في ذلك الوقت يتحرجون من الولايات الشرعية، فكانوا يقولون: نحن نجاهد وندعو ونضحي لكن لا نريد الدنيا، فتركت في أيدي الساسة، فآل الأمر إلى ما آل إليه بسبب هذا الانفصال.

فالسلبية الآن لا محل لها، لأن الأمة في أوضاع يرثى لها، فكل من يستطيع البلاغ فليبلغ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) فلا يحقرن أحد نفسه في أي دور يستطيع أن يقوم به بصورة إيجابية في الدعوة والتعليم، فلا يتقاعس بحجة أن نيته فاسدة، فيقول: أخاف ألا أكون مخلصاً، ولم أتأهل، وحينئذ يكون الثمن غالياً! فهذا تنبيه عابر لمناسبة موضوع السلبية في الفتن، وممكن أن يكون الإنسان في الفتن سلبياً تماماً ما لم يبن له الحق مع أحد الطرفين، خاصة في أواخر الزمان، والفتن التي يتخذ الإنسان فيها سيفاً من خشب أو كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون كابن آدم المقتول ظلماً، وهو هابيل: (كن كخير ابني آدم ولا تقاوم) هي أمر آخر، وهذه أوضاع خاصة، لكن القاعدة: أن الإنسان لا يكون سلبياً إزاء الواجبات الشرعية، ويظن أنه بهذا التورع الكاذب معفي من المسئولية أمام الله سبحانه وتعالى.

قال الطبري رحمه الله: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه، ولزوم المنازل، لما أقيم حد، ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين، وسبي نسائهم، وسفك دمائهم.

وذلك أن يتحزبوا عليهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم.

وممكن أن يكون البغاة مسلمين، لكنهم فسقة وظلمة وفجار ينتهكون الأعراض، ويسفكون الدماء، ويفسدون في الأرض، فلو كف عنهم أهل الخير والصلاح وانسحبوا وهربوا وقالوا: نعتزل الفتن، لكان ذلك تقوية لشوكة أهل الفساد، فيعلون على المسلمين وهم فسقة، وإذا حكم الفاسق فقد حكم الفسق؛ ولابد أنه في منهجه سيكون مروجاً للفسق، فأين ذلك من الأمر بالأخذ على أيدي السفهاء؟!