للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفة مع أدب الاقتصار في الكلام على ما تؤدى به الحاجة]

ثم قال: وقوله: ((وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة.

مم أخذ أن المرأة إذا خاطبت الرجال تختصر الكلام بقدر المستطاع؟ أُخذ من حذف المبتدأ فهي لم تقل: أنا عجوز عقيم، وإنما قالت: عجوز عقيم، فاختصرت في الكلام جداً، لكن لو أنها واحدة من بنات هذا الزمان أو من نساء هذا الزمان إلا من عصم الله وسئلت: أين فلان؟ لقالت: فلان والله جاء له كذا وكذا وذهب إلى كذا، لكن تفضل وانتظره، إلى آخر هذا الكلام.

بينما المفروض على المرأة إذا خاطبت الرجال أن تختصر جداً في الكلام، وأن تقتصر على ما تتأدى به الحاجة، أما الإطالة في الكلام والإكثار من القيل والقال فهذا مما لا ينبغي.

بالمناسبة نتوقف وقفة يسيرة مع أحد التنبيهات، وهو الكلام على التدخل في خصائص الناس وتحري أسرار البيوت ونحو ذلك من وسائل استنطاق الناس بما عندهم من الأسرار، بعض الناس يكون لهم ظروف خاصة بهم فتأتي بعض النساء فتريد أن تكتنف وتنبش أسرار البيوت وخصائص الناس وأحوالهم الخاصة، فتأتي تكلمها بصورة أو بأخرى حتى تستخرج منها ما لا يعنيها، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) يعني: أن الإعراض عما لا يعني من علامات أن الإنسان قد حسن إسلامه، وهذا ليس خاصاً بالنساء بل يدخل فيه الرجال أيضاً.

ما دمت أيها المسلم لا تسأل أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة عن هذا الشيء فهو مما لا يعنيك فلا تنشغل به، لكن إذا أتاك الناس واختصموا إليك وسمعت من الخصوم فهذا واجبك، لكن على أن تعدل بين الخصمين ولا يجوز لك أن تتكلم أبداً مع طرف واحد أو تنصت إلى حجج طرف واحد، بل لابد أن تحضر الطرف الآخر وتسمع من الطرفين مباشرة، حينئذ يحق لك أن تتكلم، هذا إذا طلب منك أن تقوم بدور القاضي أو المصلح بين الناس، أما إذا لم يطلب منك أحد أن تتدخل في أحوال الناس فينبغي أن تستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) وينبغي أن نتعبد بهذا الأمر.

إذاً: على الإنسان ألا يتدخل في أسرار الناس وخصوصياتهم؛ لأنه كما يقولون: البيوت أسرار، ويقول الشاعر في هذا: ما يريد الناس منا ما ينام الناس عنا لو سكنا باطن الأرض لكانوا حيث كنا إنما همهم أن ينشروا ما قد دفنا وهذا أحد السلف الصالحين لما سألته ابنته يوماً وقالت له: يا أبتاه! أين هذا الجذع الذي كان على بيت جيراننا؟ يعني: مرت سنوات طويلة وهذه البنت من صغرها كانت إذا نظرت إلى بيت الجار تلاحظ فوق سطح الجار في الليل مثل جذع شجرة ثابت دائماً فقالت له: يا أبتاه أين هذا الجذع الذي كنا نراه على سطح الجيران؟ قال: يا بنتاه هذا منصور بن زاذان العابد الجليل كان يقوم الليل وقد توفي.

نفهم من هذا أن أباها ما اشتغل بالكلام عن حال هذا الجار، مع أنه كان في مثل هذا الأمر من العبادة، فهذا يدل على أن السلف ما كانوا يشتغلون بتتبع أسرار الناس واستنطاق الناس بأسرارهم الشخصية؛ لأن الإنسان قد يكتم أموراً ولا يريد أن يظهرها، فأنت تستنطقه وتستخرج منه ما قد يسوءك، فالسلامة أن الإنسان لا يتدخل فيما لا يعنيه إلا إذا كان قاضياً فله أن يسمع من الأطراف كلها، حينئذ يضمن العدل والإنصاف، وإلا لا تجبر الناس على أن يتحدثوا بما يكرهون.