للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم أتواصوا به بل هم قوم طاغون)]

قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:٥٢ - ٥٣].

قوله: ((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: كما ذكر من تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسميتهم له ساحراً أو مجنوناً، قال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:٥٢] أي: هم قالوا ذلك تقليداً لآبائهم واقتداءً لآثارهم، فمورد جهالتهم مؤتلف ومشرع تعنتهم متحد، فآباؤهم واجهوا الرسل السابقين بنفس الاتهام فقالوا: ساحر أو مجنون.

((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) إنكار وتعجب من حالهم وإجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة التي لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء فضلاً عن التفوه بها.

قوله: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) أي: كأن كل جيل كان يوصي الجيل الآتي بقوله: إذا أتاكم رسول فقولوا له: أنت ساحر أو مجنون، أو ساحر كذاب.

قوله: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) أي: أأوصى بهذا القول بعضهم بعضاً حتى اتفقوا عليه؟! فأضرب الله سبحانه وتعالى عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك فقال: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) يعني التأريخ يعيد نفسه.

ألا إنما الأيام أبناء واحد وتلك الليالي كلها أخوات فلا تطلبن من عند يوم ولا غد خلاف الذي مرت به السنوات هذه سنة ماضية، فهم لما اتحد جوابهم وتعنتهم مع الرسل لا لأنهم تواصوا به حقيقة؛ ولكن لأنهم يتفقون في صفة هي التي أثمرت لهم نفس الرد وهي أنهم قوم طاغون.

((بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ))، فهذا إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك وإثبات لكونه أمراً أقبح من التواصي وأشنع منه وهو الطغيان الشامل للكل، الدال على أن صدور تلك الكلمة الشنيعة من كل واحد منهم بمقتضى جبلته الخبيثة لا بموجب وصية من قبلهم بذلك، فهذا هو السبب الحقيقي في أنهم ردوا نفس الرد، وقابلوا وجابهوا جميع الأنبياء والرسل بنفس التكذيب والإعراض.

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:٥٢ - ٥٣] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ما أتى نبي قوماً إلا قالوا: ساحر أو مجنون، ثم قال: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) ثم أضرب عن تواصيهم بذلك إضراب إبطال؛ لأنهم لم يجمعوا في زمن حتى يتواصوا، فقال: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) أي: الموجب الذي جمعهم على اتفاقهم جميعاً على تكذيب الرسل ونسبتهم للسحر والجنون هو اتحاد الطغيان، الذي هو مجاوزة الحد في الكفر.

وهذا يدل على أنهم إنما اتفقوا لأن قلوب بعضهم تشبه قلوب بعض في الكفر والطغيان، فتشابهت مقالاتهم للرسل لأجل تشابه قلوبهم.

وقد أوضح تعالى هذا المعنى في سورة البقرة في قول الله تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:١١٨].

فإذا كانت القلوب متشابهة، فإنه يصدر عنها نفس هذا الصد عن سبيل الله، وهذا ما نلاحظه ونشهده في آفاق الأرض كلها، الآن مثلاً يجتمع الجميع على الصد عن سبيل الله وتجد نفس الكلام من الشتم كقولهم: هؤلاء الإرهابيون المتطرفون المهووسون إلى غير ذلك من الشتائم التي يطلقونها علينا.