للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (والنجم إذا هوى)]

أما العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى فقد تكلم أيضاً في تفسير هذه الآية بقوله: اختلف العلماء في المراد بهذا النجم الذي أقسم الله به في هذه الآية الكريمة، فقال بعضهم: المراد به النجم إذا رجمت به الشياطين، وقال بعضهم: إن المراد به الثريا، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، وتطلق لفظة (النجم) على الثريا بالغلبة، فلا تكاد العرب تطلق لفظ النجم مجرداً إلا عليها، ومنه قول نابغة ذبيان: أقول والنجم قد مالت أواخره إلى المغيب تثبت نظرة حار يعني بذلك: الثريا.

وقوله تعالى: (إِذَا هَوَى)، أي: سقط مع الصبح، وهذا اختيار ابن جرير.

وقيل: النجم الزهرة.

أي: كوكب الزهرة، وخصه بالذات؛ لأنه كان هناك قوم يعبدونه.

وقيل: المراد بالنجم نجوم السماء، وعليه فهو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع، كقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:٤٥])، فأطلق المفرد والمقصود الجمع، أي: ويولون الأدبار.

وقال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً} [الفجر:٢٢]، والمقصود بالملك الملائكة.

وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:٧٥]، أي: الغرف.

وقال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلَاً} [الحج:٥]، يعني: أطفالاً.

وإطلاق النجم مراداً به النجوم معروف في اللغة، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: ثم قالوا تحبها قلت بهراً عدد النجم والحصى والتراب وقال الراعي: فباتت تعد النجم في متسحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها أي: ولو كان النجم واحداً فقط كما هو في اللفظ المفرد لما كانت ستعد النجوم.

وإنما هو من باب إطلاق المفرد والمراد به الجمع.

وعلى هذا القول فمعنى هَوِي النجوم: سقوطها إذا غربت، أو انتثارها يوم القيامة.

وقيل: النجم النبات الذي لا زرع له.

وقال بعض أهل العلم: المراد بالنجم: الجملة النازلة من القرآن، فإنه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أنجماً منجماً في ثلاث وعشرين سنة، وكل جملة منه وقت نزولها يصدق عليها اسم النجم صدقاً عربياً صحيحاً، كما يطلق على ما حان وقته من الدية المنجمة على العاقلة، والكتابة المنجمة على العبد المكاتَب.

وعلى هذا فقوله: (إِذَا هَوَى)، أي: نزل به الملك من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: هوى يهوي هُوِياً إذا اخترق الهواء نازلاً من أعلى إلى أسفل.

ثم يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أولاً: أن القول بأنه الثريا وأن المراد بالنجم خصوصها وإن اختاره ابن جرير وروي عن ابن عباس وغير واحد ليس بوجيه عندي.

وكما قلنا مراراً: العلامة الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى لما يقول كلمة: (عندي) فهو أهل لأن يقول (عندي)، لأنه يعتبر -والله تعالى أعلم- من أعلم الناس بالقرآن في هذا العصر المتأخر، صحيح أن الشيخ توفي سنة ١٣٩٣هـ رحمه الله تعالى؛ ولكن بشهادة جميع تلامذته أنه ما رئي أعلم بكتاب الله منه على الإطلاق، والشيخ الشنقيطي من الذين علمهم أكبر من كتبهم، يعني: الكتب هذه التي نقرؤها وبخاصة هذا الكتاب المبارك: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، لا يدل على سعة علمه الحقيقية، ومن الناس من تكون كتبه أكبر من علمه، ومنهم من يكون علمه أكبر من كتبه، كالإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى، ومن سمع تسجيلات الشيخ الشنقيطي يظن أنه يقرأ، وإنما كان يتناثر العلم منه كالدرر التي لا تنقطع، كالسيل الهادر إذا هجم، ولا يتوقف عن الكلام إلا لسعلة تصيبه أو كحة أو شيء من هذا أو يأخذ نفساً أثناء الكلام، فعندئذ فقط يتوقف.

أما علمه الغزير الذي ما عرف له نظير فهو في علم القرآن الكريم في هذا الزمان بشهادة تلاميذه، وهم أنفسهم أئمة، كالشيخ بكر أبو زيد والشيخ عبد الخالق وغيرهم ممن تتلمذوا على يديه، بل ممن تتلمذ عليه الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، مع جلالة قدره؛ لكنه أخذ عنه شيئاً من العلوم، خاصة في البلاغة واللغة وهذه الأشياء، فالمهم أن العلامة الشنقيطي وإن كان معاصراً حينما يقول هذا القول: (ليس بوجيه عندي) فهذه كلمة مقبولة، لا كما يتشدق بها الكثير من الأفراخ من طلبة العلم الذين يقول أحدهم: عندي في هذه المسألة القول الراجح كذا، وعندي كذا، فهؤلاء حقيق أن يقال لهم قول الشاعر: يقولون هذا عندنا غير جائز فمن أنتم حتى يكون لكم عند يقول الشيخ رحمه الله تعالى: والأظهر أن النجم يراد به النجوم، وإن قال ابن جرير بأنه لا يصح، والدليل على ذلك جمعه تعالى للنجوم في القسم في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:٧٥]؛ لأن الظاهر أن المراد بالنجم إذا هوى هنا كالمراد بمواقع النجوم في الواقعة.

وقد اختلف العلماء أيضاً في المراد بمواقع النجوم، فقال بعضهم هي: مساقطها إذا غابت، وقال بعضهم: انتثارها يوم القيامة، وقال بعضهم: منازلها في السماء؛ لأن النازل في محل واقع فيه، وقال بعضهم: هي مواقع نجوم القرآن النازل بها الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له -أي: العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى-: أظهر الأقوال عندي وأقربها للصواب في نظري، أن المراد بالنجم إذا هوى هنا في هذه السورة وبمواقع النجوم في الواقعة هو نجوم القرآن التي نزل بها الملك نجماً فنجماً، وذلك لأمرين: أحدهما: أن هذا الذي أقسم الله عليه بالنجم إذا هوى الذي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم على حق، وأنه ما ضل وما غوى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، موافق في المعنى لما أقسم عليه بمواقع النجوم.

يقول: والإقسام بالقرآن على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صدق القرآن العظيم وأنه منزل من الله جاء موضحاً في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس:١ - ٥].

وقال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنَاً عَرَبِيَّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:١ - ٤].

وخير ما يفسر به القرآن القرآن.

إذاً: هذا هو الدليل الأول، استدل بأن المقسم عليه هو هذا القرآن الكريم.

والثاني: أن كون المقسم به المعبر عنه بالنجوم هو القرآن العظيم أنسب؛ لقوله بعده: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:٧٦].

أي: أنه يفسر آية النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:١] بقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:٧٥].

يقول: كون المقسم به المعبر عنه بالنجوم هو القرآن العظيم أنسب؛ لقوله بعده: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:٧٦]؛ لأن هذا التعظيم من الله يدل على أن هذا المقسم به في غاية العظمة، ولا شك أن القرآن الذي هو كلام الله أنسب لذلك من نجوم السماء ونجم الأرض، والعلم عند الله تبارك وتعالى.