للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ما ضل صاحبكم وما غوى)]

يقول الله تبارك وتعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:٢].

هذا هو جواب القسم، يعني: أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حاد عن الحق ولا زال عنه.

والضلال -كما قال بعض العلماء-: يقع من الجهل بالحق، فيطلق على الشخص إذا جهل الحق وما علم به ولا سمعه.

أما الغي فهو العدول عن الحق مع معرفته.

يقول القاسمي: ((مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ)) أي: ما حاد عن الحق ولا زال عنه، ((وَمَا غَوَى) أي: ما صار غوياً؛ ولكنه على استقامة وثبات ورَشَد وهدىً، وفيه تعريض بأنهم أهل الضلال والغي، وذِكره صلى الله عليه وسلم بعنوان ((صاحبهم)) للإعلام بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة، وإحاطتهم بمحاسن شئونه المنيفة، فهو تبكيت لهم على وجه أبلغ من أن يصرَّح باسمه، وإشارة إلى أنه كان أبداً موحداً لله، فما ضل صلى الله عليه وآله وسلم وما غوى.

ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: وبين المقسم به والمقسم عليه من التناسب ما لا يخفى.

والمقسم به في رأي ابن القيم هو قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:١]، أي: النجوم التي ترجم بها الشياطين لحراسة الوحي، وحراسة السماء، والمقسم عليه هو قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:٢ - ٣].

فيقول: بين المقسم به والمقسم عليه من التناسب ما لا يخفى، فإن النجوم التي ترمي الشياطين آيات من آيات الله يحفظ بها دينه ووحيه وآياته المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم، بها ظهر دينه وشرعه وأسماؤه وصفاته، وجعلت هذه النجوم المشاهَدة خدماً وحرساً لهذه النجوم الهاوية، ونفى سبحانه عن رسوله صلى الله عليه وسلم الضلال المنافي للهدى والغي المنافي للرشاد، ففي ظل هذا النفي الشهادةُ له بأنه على الهدى مرتين: فالهدى في علمه.

والرشاد في عمله.

-صلى الله عليه وسلم- وهذا الأصلان هما غاية كمال العقل، وبهما سعادته وفلاحه، وبهما وصف النبي صلى الله عليه وسلم خلفاءه فقال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)، كما في حديث العرباض بن سارية - فالراشد ضد الغاوي، والمهدي ضد الضال، وهو الذي زكت نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وهو صاحب الهدى ودين الحق، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:٣٣]، ولا يشتبه الراشد المهدي بالضال الغاوي إلا على أجهل خلق الله وأعماهم قلباً وأبعدهم من حقيقة الإنسانية، ولله در القائل: وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم فالناس أربعة أقسام: القسم الأول: ضال في علمه غاوٍ في قصده وعمله، وهؤلاء شرار الخلق، وهم مخالفو الرسل.

الثاني: مهتدٍ في علمه غاوٍ في قصده وعمله، وهؤلاء هم الأمة الغضبية.

وهي أمة اليهود لعنهم الله؛ فعندهم العلم، لكن ليس عندهم العمل، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) [المائدة:٦٠]، وهكذا حينما وصف الله سبحانه وتعالى الصراط المستقيم قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:٥ - ٧] وهم اليهود لفسادهم العملي، {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٧]؛ لفسادهم الاعتقادي والعلمي.

يقول ابن القيم: الثاني: مهتدٍ في علمه غاوٍ في قصده وعمله، وهؤلاء هم الأمة الغضبية ومن تشبه بهم، وهو حال كل من عرف الحق ولم يعمل به.

الثالث: ضال في علمه، ولكن قصده الخير وهو لا يشعر.

الرابع: مهتدٍ في علمه راشد في قصده، وهؤلاء ورثة الأنبياء، وهم إن كانوا الأقلين عدداً فهم الأكثرون عند الله قدراً، وهم صفوة الله من عباده وحزبه من خلقه.

وتأمل كيف قال سبحانه وتعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} [النجم:٢] ولم يقل: ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم، تأكيداً لإقامة الحجة عليهم بأنه صاحبهم، كما قال تعالى آمراً نبيه أن يقول: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرَاً مِنْ قَبْلِهِ) [يونس:١٦]، فهم يعرفونه، وهم أعلم الخلق به وبحاله وأقواله وأعماله، ويقرون أنهم لا يعرفونه بكذب ولا غي ولا ضلال، ولا ينقمون عليه أمراً قط، وقد نبه على هذا المعنى تبارك وتعالى بقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون:٦٩] وبقوله تبارك وتعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:٢٢]، أي: وأنتم تعرفون ذلك؛ لأنه صاحبكم، وقد عاشرتموه عمراً مديداً طويلاً.

ويقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:٢]: قال بعض العلماء: الضلال يقع من الجهل بالحق، والغي هو العدول عن الحق مع معرفته، أي: ما جهل الحق وما عدل عنه، بل هو عالم متبع له.

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كونه صلى الله عليه وسلم على هدى مستقيم جاء موضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:٧٩]، وقال تعالى: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج:٦٧]، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢]، وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:٤٣].

وقول الله تبارك وتعالى هنا في هذه الآية: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٤] استدل به علماء الأصول على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجتهد، والذين قالوا: إنه قد يقع منه الاجتهاد استدلوا بقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:٤٣] إلى آخر الآية، وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:٦٧] إلى آخر الآية، وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:١١٣] إلى آخر الآية.

قالوا: فلو لم يكن هذا عن اجتهاد لما قال الله عز وجل: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:٤٣]، ولما قال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال:٦٧].

يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ولا منافاة بين الآيات؛ لأن قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٤] معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عن الله إلا شيئاً أوحى الله إليه أن يبلغه، فمن يقول: إنه فعل أو سحر أو كهانة أو أساطير الأولين هو أكذب خلق الله وأكفرهم، ولا ينافي ذلك أنه أذن للمتخلفين عن غزوة تبوك، وأسَر الأسارى يوم بدر، واستغفر لعمه أبي طالب من غير أن ينزل عليه وحي خاص في ذلك.

يعني: أنه صلى الله عليه وسلم في هذه المواقف ما نزل عليه وحي خاص، وإلا لو أوحى الله إليه وحياً خاصاً في هذه المواقف لكان سوف يبلغه عن الله كما أنزله الله، أما ما وقع في هذه المواقف فلأنه صلى الله عليه وسلم لم ينزل عليه وحي خاص في ذلك.