للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنواع الاستطراد في القرآن الكريم]

ولما ذكر رؤيته لجبريل عند سدرة المنتهى استطرد، وذكر أن جنة المأوى عندها، وأنه يغشاها من أمره وخلقه ما يغشى، وهذا من أحسن الاستطراد، وهو أسلوب لطيف جداً في القرآن الكريم, والاستطراد في القرآن الكريم يأتي على نوعين: أحدهما: أن يستطرد من الشيء إلى لازمه، مثل هذه الآية.

فالسياق أساساً في الكلام على رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل، قال تبارك وتعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:١٢] إلى أن قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:١٣]، وهذا كله في إثبات رؤية جبريل، ثم قال: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:١٤]، هذا هو الموضع الذي رآه فيه، ثم استطرد القرآن الكريم إلى شيء من التفصيل عن سدرة المنتهى، وهذا من الاستطراد الذي يكون أحسن ما يكون وأفخم ما يكون وأبدع ما يكون، فحينما ذكر سدرة المنتهى استطرد في وصفها وأحوالها: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:١٥ - ١٦].

ومثل ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:٩]، ثم استطرد من جوابهم إلى قوله تبارك وتعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدَاً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلَاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتَاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:١٠ - ١٣] إلى آخر الآيات، فهذا ليس من جوابهم؛ ولكنه تقرير له وإقامة للحجة عليهم.

فهل الكفار لما يوجه إليهم

السؤال

(( مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)) هل هم يقولون: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدَاً} [الزخرف:٩ - ١٠]؟

الجواب

لا، بل انتهى جوابهم عند: ((خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ))، فاستطرد القرآن الكريم من هذا إلى ما يلزم منه، وهو ذكر صفات الله تبارك وتعالى وأفعاله.

ومن ذلك أيضاً -من هذا النوع من الاستطراد-: قول الله تبارك وتعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:٤٩ - ٥٢] فهذا جواب موسى، ثم استطرد سبحانه وتعالى من جواب موسى فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدَاً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلَاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجَاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:٥٣ - ٥٥]، ثم عاد إلى الكلام الذي استطرد منه: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:٥٦] إلخ.

النوع الثاني: أن يحصل استطراد من الشخص إلى النوع، كقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:١٢ - ١٣] فـ (الهاء) في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} تعود إلى الإنسان.

فهنا استطرد، فـ (الهاء) لا تعود على المذكور من في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ} [المؤمنون:١٢]؛ لأن الإنسان هنا هو آدم عليه السلام.

فقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ)، الذي خلق من طين هو آدم فقط، وقوله: ((ثُمَّ جَعَلْنَاهُ)) المقصود هنا من بعد آدم عليه السلام، وهذا استطراد من الشخص الذي هو آدم إلى النوع الإنساني بعد آدم وهو سائر البشر.

ومن هذا النوع من الاستطراد أيضاً: قول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلَاً خَفِيفَاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحَاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحَاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:١٨٩ - ١٩١]، فسياق آخر الآيات في المشركين، وليس في آدم وحواء، فآدم نبي، وحواء كانت مسلمة، فإذا أحسنا فهم القرآن لم نقع في الاشتباه الذي يقع من بعض الناس، حتى إن بعض المفسرين زعموا أن المقصود بقوله تبارك وتعالى: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحَاً) يعني: لما آتى الله آدم وحواء صالحاً كانت حواء -فيما يزعمون ولم يصح- كلما رزقت بولد لا يعيش، فأتاها الشيطان وقال لها: لو أردته أن يعيش فسميه عبد الحارث، فلما رزقت بولد سمته عبد الحارث، والحارث شيطان، فلذلك قالوا: إن هذا هو المقصود بقوله تعالى: ((جَعَلاَ)) أي: جعلا -أي: آدم وحواء - (لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، وهذا السياق لا يمكن أن يكون في آدم وهو نبي معصوم، ولا في حواء وهي أول مسلمة على وجه الأرض، وإنما الصحيح أن هذا نوع من الاستطراد في القرآن الكريم، وهو استطراد من الشخص إلى النوع، وذلك في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ} [المؤمنون:١٢ - ١٣] وفي الآية الأخرى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [السجدة:٨] لكن هنا قال: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} فـ (الهاء) لا تعود على آدم، إنما هذا استطراد في نوع آدم، وهم بنوه.

أما هذه الآية الكريمة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وهو آدم (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) لأن حواء خلقت من آدم (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلَاً خَفِيفَاً فَمَرَّتْ بِهِ)؛ لأن الحمل في البداية يكون خفيفاً؛ ولذلك تستطيع أن تتنقل وتروح وتجيء بلا عبء ((فَلَمَّا أَثْقَلَتْ)) معناه: فرغت من الوضع (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحَاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحَاً) هنا السياق بدأ ينتقل استطراداً من الشخص إلى النوع، وأما الكلام عن آدم وحواء فقد انتهى، وصار الكلام هنا عن المشركين من ذريتهما، ولا بد أن تفهم الآية على هذا النحو.

وعلى هذا فقوله: ((فَلَمَّا آتَاهُمَا صالحاً)) يعني: لما آتى الله آدم وحواء صالحاً كفر به بعد ذلك كثير من ذريتهما، هذا هو معنى الآية، وأسند فعل الذرية إلى آدم وحواء لأنهما أصل لذريتهما، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف:١١]، يعني: بتصويرنا لأبيكم آدم؛ لأنه أصلكم، بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:١١] فخاطبنا نحن وإن كان المقصود آدم لأنه أصل الذرية، فكذلك هنا في قوله: (جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) يعني: جعل كثير من ذرية آدم وحواء بعد ذلك شركاء فيما آتاهما، فهنا استطرد من ذكر الأبوين إلى ذكر المشركين من أولادهما، والدليل: قوله تعالى -مباشرة بعد هذه الآية-: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) * (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، فهذا نص صريح بأن المراد المشركون من بني آدم.

والله أعلم.