للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة)]

يقول الله تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:١ - ٢].

{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي: نزلت وجاءت.

و (الواقعة) عَلَمٌ بالغلبة على القيامة أو منقول، سميت بذلك لتحقق وقوعها، وكأنه قيل: إذا وقعت التي لابد من وقوعها.

واختيار (إذا) مع صيغة المضي للدلالة على ما ذكر.

{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي: كذب أو تكذيب.

فقد جاء المصدر على زنة (فاعلة) كالعاقبة والعافية، واللام للاشتقاق.

أو المعنى: ليس حين وقعتها نفس كاذبة، أي: تكذب على الله أو تكذب في نفيها، واللام للتوقيت.

قال الشهاب: والواقعة السقطة القوية، وشاعت في وقوع أمر عظيم، وقد تخص بالحرب، ولذا عبر بها هنا.

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الذي يظهر لي صوابه أن (إذا) هنا هي الظرفية المضمنة معنى الشرط، وأما قوله الآتي: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة:٤] فهي بدل من قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}، وأن جواب (إذا) هو قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:٨]، فالمعنى: إذا قامت القيامة وحصلت هذه الأهوال العظيمة ظهرت منزلة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة.

وقوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي: قامت القيامة، فالواقعة من أسماء القيامة، كالطامة والصاخة والآزفة والقارعة.

وقد بين الله جل وعلا أن الواقعة هي القيامة بقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:١٣ - ١٦].

وقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:٢] فيه أوجه من التفسير معروفة العلل عند العلماء كلها حق، وبعضها يشهد له القرآن: الوجه الأول -وهو أقرب هذه الوجوه- أن قوله تعالى: ((كَاذِبَةٌ)) مصدر جاء بصيغة اسم الفاعل، كالعافية تأتي بمعنى المعافاة، والعاقبة تأتي بمعنى العقبى، ومنه قوله تعالى عند جماعة من العلماء: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:١١]، أي: لا تسمع فيها لغواً.

والمعنى هنا: ليس لقيام القيامة كذب ولا تخلف، بل هو أمر واقع يقيناً لا محالة.

ومن هذا المعنى قولهم: حمل الفارس على قرنه فما كذب.

أي: ما تأخر ولا تخلف ولا جبن، ومنه قول زهير: ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما كذب الليث عن أقرانه صدقا إذا كذب الليث عن أقرانه صدق، فهو لا يفعل الوشاية.

يدل عليه قول الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [النساء:٨٧]، وقال تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [الحج:٧]، وقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران:٩]، وقال تعالى: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى:٧]، فقوله: (لا ريب فيه) يشبه قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}.

أما الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} فقالوا: إن اللام في قوله: (ليس لوقعتها) ظرفية، و (كاذبة) اسم فاعل صفة لمحذوف، أي: ليس في وقعة الواقعة نفس كاذبة، بل جميع الناس يوم القيامة صادقون بالاعتراف بالقيامة مصدقون بها، ليس فيهم نفس كاذبة بإنكارها ولا مكذبة بها.

وهذا المعنى يشهد له قوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الشعراء:٢٠١]، فحينما تقع القيامة سوف يقر بها جميع الناس ولن يرتاب بها أحد؛ لأنهم يعاينونها.

وقال تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:٥٥].

وقال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:٦٦].