للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (خافضة رافعة)]

يقول تعالى: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:٣].

أي: تخفض الأشقياء إلى الدركات وترفع السعداء إلى الدرجات؛ لأن دركات النار تذهب نازلة، فكلما نزلت تكون أبعد قعراً، ودرجات الجنة تذهب علواً، فكلما صعدت تكون أعلى وأرقى، فالوقائع العظام تخفض قوماً وترفع آخرين.

وقوله: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}، خبر مبتدأ محذوف، أي: هي خافضة رافعة، ومفعول كل من الوصفين محذوف، قال بعض العلماء: التقدير: (خافضة) أي: هي خافضة أقواماً في دركات النار (رافعة) أقواماً إلى الدرجات العلى في الجنة، كما قال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:١٤٥]، وقال أيضاً: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [طه:٧٥ - ٧٦]، وقال تعالى: (وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) [الإسراء:٢١].

وقال بعض العلماء: تقديره: خافضة أقواماً كانوا مرتفعين في الدنيا، رافعة أقواماً كانوا منخفضين في الدنيا، وهذا المعنى يشهد له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:٢٩ - ٣٥]، فهم على الأرائك في علو وارتفاع، في حين أن العلو كان في الدنيا للكفار الذين كانوا يسخرون منهم.

وقال بعض العلماء: تقديره: خافضة بعض الأجرام التي كانت مرتفعة؛ لأن القيامة يحصل فيها اضطراب في نظام الكون وينهدم هذا الوجود كله، فهي خافضة بعض الأجرام التي كانت مرتفعة كالنجوم التي تسقط وتتناثر يوم القيامة، وذلك خفض لها بعد أن كانت مرتفعة، كما قال تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} [الانفطار:٢]، وقال تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:٢].

وكذلك رافعة، أي: رافعة بعض الأجرام التي كانت منخفضة، كالجبال، فالجبال ثابتة على سطح الأرض، لكنها يوم القيامة ترتفع من أماكنها وتسير بين السماء والأرض، يقول تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف:٤٧] أي: لأنه لم يبق على ظهرها شيء من الجبال، وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:٨٨]، وذلك على الراجح إنما يكون يوم القيامة، أي: تسير الجبال بين السماء والأرض كسير السحاب الذي هو المزن، وقد صرح تعالى بأن الجبال تحمل هي والأرض أيضاً يوم القيامة في قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [الحاقة:١٣ - ١٤].

وعلى هذا القول فالمراد تعظيم شأن يوم القيامة، وأنه يختل فيه نظام العالم، أما على القولين الأولين، فالمراد الترغيب والترهيب؛ ليخاف الناس في الدنيا من أسباب الخفض في الآخرة فيطيعوا الله، ويرغبوا في أسباب الرفع فيطيعوه أيضاً.

وإذا كان في تفسير الآية أقوال عدة غير متناقضة ويحتملها لفظ القرآن الكريم؛ فالصواب حملها على جميع تلك المعاني؛ لأنها لا تتعارض، وفي نفس الوقت كل منها يحتمل ويوجد ما يؤيده من القرآن الكريم، إنما نحتاج للصحيح إذا كان بين الأقوال تعارض.