للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إنهم كانوا قبل ذلك مترفين الحنث العظيم)]

قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:٤٥ - ٤٦] أي: كانوا قبل ذلك منهمكين في اللذات والشهوات، منغمسين في الأمور الطبيعية والغواشي البدنية، فبذلك اكتسبوا هذه الهيئات الموبقة والتبعات المهلكة.

{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} الذنب العظيم من الأقاويل الباطلة والعقائد الفاسدة التي استحقوا بها العذاب المخلد والعقاب المؤبد.

وفسره السبكي بالقسم.

يعني أن السبكي فسر الحنث العظيم بالقسم على إنكار البعث في حينما كانوا يحلفون في الدنيا، كما قص الله تعالى عنهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:٣٨] فهذا هو الحنث العظيم.

قال الشهاب: وهو تفسير حسن.

قال: لأن الحنث وإن فسر بالذنب مطلقاً أو بالذنب العظيم، فالمعروف استعماله في عدم البر بالقسم.

فكلمة الحنث تستعمل في معنى الذنب العظيم أو الذنب مطلقاً؛ لكنها -أيضاً- تستعمل بصورة مشهورة في عدم البر بالقسم، فيقال: (حنث في يمينه)، أي: لم يبر بقسمه.

ولذلك فسره بما كانوا يعتقدونه من إنكار البعث، فهذا يقوي تفسير قوله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} أنه القسم الذي كانوا يقسمونه في الدنيا، كما أخبر الله تعالى عنهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:٣٨] ولذلك أتبع الله قوله: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} بقوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة:٤٧ - ٤٨] فهذا فيه ربط بين الحنث العظيم وهو القسم المذكور في سورة النحل وشرح له.

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: لما ذكر جل وعلا ما أعد لأصحاب الشمال من العذاب بين بعض أسباب هذا العذاب، فذكر منها أنهم كانوا قبل ذلك في دار الدنيا مترفين، أي: متنعمين.

وقد قدمنا أن القرآن دل على أن الإتراف والتنعم والسرور في الدنيا من أسباب العذاب يوم القيامة؛ لأن صاحبه معرض عن الله لا يؤمن به ولا برسله، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:٤٥] وقال تعالى: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:١١ - ١٣]، أي إنه كان يعيش مترفاً ويعيش للتمتع بالدنيا فحسب.

{إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:١٣] ما بين النوادي والملاهي والأفلام وشرب الخمر والكوميديا وكذا وكذا، يقولون لهم: الفلم الفلاني فيه ساعتان ضحك متواصل، والمسرحية هذه سوف تضحك فيها وتضحك وتضحك حتى يموت قلبك.

وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إياكم وكثرة الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب) ما كان فرحهم كما قال الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس:٥٨] بالقرآن وبالعلم وبالإيمان! لا.

بل كان فرحهم بمتاع الدنيا، بالمناصب وبالجاه وبالأموال وبالثروات وبالقصور، بهذه الأحوال المعروفة، فلذلك قال تبارك وتعالى: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:١١ - ١٢] ثم ذكر الأسباب: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:١٣].

فإذاً الإنسان لا ينبغي له أن ينهمك في الدنيا في مظاهر السرور والابتهاج، وينسى أنه يتقدم نحو نهاية الرحلة.

فالإنسان لابد من أن يصل إلى محطة معينة سوف ينزل فيها، فهو غافل، لكنه ليس مغفولاً عنه، فليحذر الإنسان من الانهماك في متاع الدنيا والانشغال به عن الآخرة، والدليل هذه الآيات الكريمات التي تحتاج منا إلى كثرة تأمل.

فالله تعالى يقول: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق:١١ - ١٢] يعني: يقول: واثبوراه، واثبوراه.

والثبور الهلاك.

يعني: واهلاكاه، ثم قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:١٣ - ١٤].