للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا)]

قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:٢٧].

{ثُمَّ قَفَّيْنَا} أي: أتبعنا، {عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}، أي: حناناً ورقة على الخلق؛ لكثرة ما وصى به عيسى عليه السلام من الشفقة وهضم النفس والمحبة.

وأما إعراب رهبانية في قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّة ًابْتَدَعُوهَا} ففيها قولان: القول الأول: أنها معطوفة على ما قبلها، أي: على رحمة، ورحمة معطوفة على رأفة.

القول الثاني: أن الكلام ينتهي عند قوله: ((وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) ثم تبدأ الكلام وتقول: {وَرَهْبَانِيَّة ًابْتَدَعُوهَا}، فيكون معناها: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، فتكون مفعولاً به لفعل محذوف تقديره: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها.

وإذا قلنا بالقول الأول: وهو أن رهبانية معطوفة على رحمة، ورحمة معطوفة على رأفة، فالمعنى أن الذي جعل الرأفة والرحمة والرهبانية هو الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا فمن أي قسمي الجعل يكون قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا)

الجواب

يكون من الجعل القدري؛ لأن الرهبانية مذمومة عند الله سبحانه وتعالى، وهي بدعة وضلالة ومصادمة للفطرة، حتى لو قلنا: إن الله هو الذي جعل في قلوبهم جانب الرأفة والرحمة.

والجعل الكوني القدري يمكن أن يكون شيئاً مما يبغضه الله، لكن يشاؤه كوناً وقدراً، ولا يأمر به ولا يحبه ولا يرضى بهذا الفعل.

وأما على القول الثاني فيكون الجعل هنا شرعياً إرادياً؛ لأن الرأفة والرحمة مما يحبه الله ويأمر بها.

قوله تعالى: ((وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً))، ونقف هنا، فالمعنى: أن الله سبحانه وتعالى خص قلوب الذين اتبعوا عيسى عليه السلام بالرأفة والرحمة.

ولا يفهم من ذلك أن هذا مدح للكفار الذين ألهوا المسيح أو عبدوه، حيث جعلوه إلهاً أو ابن الله أو نحو ذلك؛ لأن هؤلاء ليسوا أتباع المسيح، بل هم أعداء المسيح عليه السلام، كما قال تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:٥٥]، أي: من المسلمين؛ لأنهم هم الذين اتبعوا المسيح عليه السلام.