للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المراد بالعود في قوله: (ثم يعودون لما قالوا)]

اختلف الفقهاء -كما ذكرنا آنفاً- في المراد من العود في قوله تعالى: ((ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا)).

قال أبو حنيفة: العود: هو عبارة عن العزم على استباحة الوطء والملامسة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:٦] المقصود: إذا أردتم القيام إلى الصلاة.

وقال أيضاً: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:٩٨]، معناها: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله، فكذلك قوله: ((ثم يعودون لما قالوا) يعني: ثم يريدون أو يعزمون على أن يرجعوا إلى ما قالوا.

وقال الشافعي: العود هو أن يمسكها بعد الظهار مع القدرة على الطلاق فلا يطلق، أي: يمسكها بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه مع القدرة على الطلاق ومع ذلك لا يطلق، فالمعنى: والذين يظاهرون ثم يعزمون على الجماع مع الإمساك فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا.

وقال مالك وأحمد: العود: هو العزم على الوطء والإمساك.

يعني: إمساك الزوجة معه.

وقال أهل الظاهر فقال أبو الظاهر: العود أن يكرر لفظ الظهار مرة ثانية؛ فإن لم يكرر لم يقع الظهار.

والآراء الثلاثة الأولى متقاربة في المعنى؛ لأن العودة إلى الإمساك، أو الوطء، أو إبقاؤها بعد الظهار بدون طلاق كلها تدل على معنى الندم، وإرادة المعاشرة للزوجه التي ظاهر منها، فاللام في (لما) بمعنى: إلى، أي: ثم يعودون إلى ما قالوا، والمعنى: يرجعون إلى تحليل ما حرموا على أنفسهم بالعزم على الوطء إلى آخر الأقوال فيها.

وقال الفراء: معنى الآية: لا يرجعون عما قالوا، وفي نقض ما قالوا.

وقال بعض العلماء: معنى قوله: ((ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا)) أي: ثم يعودون لما قالوا إنه حرام عليهم، وهو الجماع، ونظيره قول الله تبارك وتعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم:٨٠]، من أنه يؤتى مالاً وولداً، عندما قال: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:٧٧].

استدل أهل الظاهر: بأن العود معناه تكرار لفظ الظهار وإعادته، بقوله: ((ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) قالوا: فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد اللفظ، وظاهر مرة ثانية، لكن لا تلزم كفارة الظهار لأول مرة، وقالوا: الذي يعقل من قولهم: عاد إلى الفعل أنه فعله مرة ثانية، كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:٢٨]، فإذا لم يتكرر الظهار لا يقع التحريم.

قال الزجاج راداً على أهل الظاهر: هذا قول من لا يدري اللغة، وقال أبو علي الفارسي: (ليس هو كما ادعوا؛ لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن عليه الإنسان قبل وقد سميت الآخرة معاداً ولم يكن فيها أحد، ثم عاد الناس إليها.

قال الهذلي: وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى الحق شيئاً واستراح العواذل وقال ابن العربي راداً على الظاهرية أيضاً: ويشبه أن يكون هذا من جهالة داود وأشياعه، وهو باطل قطعاً؛ لأنه قد رويت قصص المظاهرين، وليس فيها ذكر لعود القول منهم، وأيضاً فإن المعنى ينقضه؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزوراً، فكيف يقال له: إذا أعدت القول المحرم، والسبب المحذور؛ وجبت عليك الكفارة! كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستفصل المرأة التي نزلت فيها آية الظهار، هل كرر زوجها لفظ الظهار أو لا؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال.

فما قاله جمهور الفقهاء من أن المراد بالعود ليس تكرار اللفظ، وإنما هو معاشرتها والعزم على وطئها، هو الصحيح المعقول لغة وشرعاً؛ لأن المظاهر قد حرم على نفسه قربان الزوجة؛ فهو يريد أن ينقض ذلك ويعيدها إلى نفسه، فيلزمه التكفير بهذا العزم.

وأما ما قاله أهل الظاهر فباطل لا يقوم عليه دليل، بل هو من آثار الفهم السقيم الذي تخبط بهؤلاء في كثير من الأحكام الشرعية، ويكفي لبطلانه حديث أوس بن الصامت؛ فإنه لم يكرر الظهار، وقد ألزمه النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة، وحديث سلمة بن صخر؛ فقد أمره صلى الله عليه وسلم بالكفارة، مع أنه لم يكرر اللفظ وقد تقدم ذكرهما، وكفى بذلك حجة قاطعة، ولا رأي لأحد أمام قول المعصوم صلى الله عليه وسلم.