للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)]

يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:٢٠٨].

(السلم): بكسر السين وفتحها -إما السِّلم أو السَّلم- وكلاهما قراءة متواترة في السبع، والمقصود به الإسلام.

قال امرؤ القيس بن عابس: فلست مبدلاً بالله رباً ولا مستبدلاً بالسلم دينا يعني: بالإسلام، ومنه قول أخي كندة: دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا يعني: للإسلام.

قال الرازي: أصل هذه الكلمة من الانقياد، قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:١٣١] أي: انقدت وخضعت، والإسلام إنما سمي إسلاماً لهذا المعنى؛ لأن معنى الإسلام يعني: الخضوع والانقياد لأمر الله تبارك وتعالى.

وغلب اسم السَّلم على الصلح وترك الحرب، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال:٦١]، وهذا -أيضاً- راجع إلى هذا المعنى؛ لأن المتخاصمين إذا رضوا بالصلح فكل طرف ينقاد للطرف الثاني ولا ينازعه، فهي من نفس هذا المعنى.

ومعنى الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:٢٠٨] أي: ادخلوا في الاستسلام والطاعة، أي: استسلموا لله وأطيعوه، ولا تخرجوا عن شيء من شرائعه كافة.

فهذا أمر بالالتزام بكل أحكام الإسلام، وكل شريعة نزل بها القرآن أو جاء بها المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ يجب عليكم أن تطيعوها وتنقادوا لها، وتستسلموا لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم دون أن تقولوا: هذا ظاهر وهذا باطن، وهذا قشر وهذا لب، وهذه أمور مهمة وهذه سفاسف، كما يقول بعض الجهلة، فإنه لا يجوز أبداً أن يطلق هذا على شيء تناوله النبي صلى الله عليه وسلم بأمر أو بنهي ودخل من العادة إلى العبادة بهذا الأمر أو النهي، لا يمكن أن يكون هذا من السفاسف، والسفاسف هي أمور الدنيا، أما شيء من أمور الدين فلا يجوز أبداً أن يطلق عليه سفاسف، صحيح هناك أصول وهناك فروع، وهناك مهم وهناك ما هو أهم منه، لكن لا يوصف أبداً أي حكم شرعي ثابت بالقرآن أو بالسنة بأنه سفاسف كما يقول بعض الجهلة من أفراخ هذا الزمان، ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها)، وسفاسف الأمور: هي أمور الدنيا لحقارتها، أما أمور الدين فكلها معالي.

نعم؛ هناك مراتب وهناك أصول وهناك فروع، وهناك ما هو أهم، وهناك ما هو مهم، فيراعى فعلاً مراتب الأعمال بالذات عند تناقضها أو اصطدامها، ويرجح الأهم، لكن لا يوصف شيء من أمر الدين أبداً بأنه قشور، وأننا ينبغي أن نهتم باللب؛ لأن الذي تراه أنت لباً يراه غيرك قشراً، فتصبح الأمور فوضى، فهذه الآية من أعظم ما يستدل به على إبطال هذه البدعة والضلالة، وهي تقسيم الدين إلى قشور ولباب، أو إلى مظاهر وجواهر.

ثم يتبع ذلك التقسيم المناداة بإهمال هذه القشور، والتمسك باللباب والروح! فبعضهم يقول لك: كن مع روح النص! فكأنه يقول: علينا أن نستمسك بروح النصوص لا بحرفيتها! وهم يريدون أن يهلكوا روح النصوص لا أن يتبعوا أرواح النصوص.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:٢٠٨] أي: التزموا بجميع شرائع الإسلام، وأنت -أيها المسلم- ادفع بهذه الآية في نحر كل من يعاندك أو يعارضك، إذا نصحته بقول الله أو بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورددت على قوله بأن هذه سفاسف أو أنها أمور تافهة، أو أنها قشور، فقل له: يقول الله عز وجل: (ادخلوا في السلم كافة) يعني: التزموا بكل وجميع شرائع الإسلام دون استثناء.

{وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:٢٠٨] أي: طرقه التي يأمركم بها.

وقد جاء التعبير بخطوات الشيطان؛ لأن الشيطان خبير في استدراج الإنسان إلى المحرمات، فلا يأمره مباشرة أن يرتكب الفاحشة، لكن يسهل الأمر، يسهل له النظر في البداية، وربما زين له هذا بقوله: تأمل في خلق الله وإبداع الله في خلقه، كما يزيغ بذلك بعض زنادقة العصر فيقول: إن غض البصر لابد أن نفهمه فهماً عصرياً، أنت تنظر للمحرمات مثلاً من النساء المتبرجات أو غير ذلك وقلبك سليم، بنية التأمل في إبداع خلق الله وغير ذلك من الكلام! فهذا من خطوات الشيطان حيث يستدرج الإنسان خطوة خطوة.

كذلك أيضاً: الفسق والفجور يسمونه فناً، وأن الموضوع بعيد جداً عن هذا التفكير الحيواني الذي تتهموننا به يا معشر المتدينين!! وهم أشد الناس فساداً وغرقاً فيما حرم الله سبحانه وتعالى.

إذاً: الشيطان يضل الإنسان عن طريق خطوات يتم فيها استدراج الإنسان خطوة خطوة، فلو أتى بك من أعلى السلم وقال لك: ارمِ نفسك! فستقول: لا، سأهلك! لكنه يأخذك خطوة خطوة، درجة درجة، وهذه حيلته: نظرة فابتسامة فكلام فسلام فموعد فلقاء! والله أعلم ما يكون من البلاء بعد ذلك! فهذه حكمة من الله سبحانه وتعالى أنه يقول: (خطوات الشيطان)، عندما يستدرجك إلى الحرام.

وضمّ الطاء من (خُطُوات) وإسكانها لغة، أي: في اللغة يمكن أن تكون: (خُطُوات) أو (خُطْوات)، وقد قرئ بهما في القراءات السبع.

{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:٢٠٨] أي: ظاهر العداوة أو مظهر لها.

كما أخبرناكم عن قصته مع أبيكم آدم عليه السلام وغيره مما شواهده ظاهرة.

يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) (السلم) بفتح السين وكسرها يعني: الإسلام.

(كافة) حال من السلم أي: في جميع شرائعه.

(ولا تتبعوا خطوات) أي: طرق (الشيطان) أي: تزيينه بالتفريق بين أمور الدين.

(إنه لكم عدو مبين) أي: بيّن العداوة.