للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة حاطب بن أبي بلتعة مع المشركين]

يقول شيخ المفسرين وإمامهم الحافظ ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: ذكر أن هذه الآيات من أول هذه السورة نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وكان كتب إلى قريش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم.

روى البخاري هذه القصة عن علي رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها) وروضة خاخ مكان بين المدينة ومكة على بعد اثني عشر ميلاً من المدينة، الظعينة: هي المرأة داخل الهودج، أم إذا كانت خارج الهودج فلا يقال عنها ظعينة.

قال: (فذهبنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب! فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها -أي: من ظفائرها- فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه سلم: ما هذا يا حاطب؟! قال: لا تعجل علي يا رسول الله! إني كنت امرأً من قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم، فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه! فقال عليه الصلاة والسلام: إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

ومعنى هذه العبارة الأخيرة: أن الله سبحانه وتعالى علم من شأن أهل بدر أنهم كلما أذنب الواحد منهم ذنباً أحدث بعده توبة فيغفر الله عز وجل له.

قال عمرو بن دينار راوي الحديث: ونزلت فيه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ)) إلى آخر الآيات.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: كان حاطب هذا رجلاً من المهاجرين، ومن أهل بدر، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفاً لـ عثمان رضي الله عنه، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهز لغزوهم، فقال: (اللهم عَمِّ عليهم خبرنا، فعمد حاطب فكتب كتاباً إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم؛ ليتخذ بذلك عندهم يداً) كما ذكر في الحديث.

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: يعني بقوله عز وجل: ((لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله والمؤمنين، الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:٥١] وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، ((وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)) يعني: من يحبهم بقلبه ويواليهم فإنه يصير كافراً مثلهم.

وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:٥٧]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:١٤٤]، وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:٢٨]؛ ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش؛ لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.