للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب امتحان النساء المهاجرات دون الرجال المهاجرين]

وهنا يرد سؤال وهو: أن الله سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)) فقيل: كان امتحانهن بأن يأمرها النبي عليه السلام أن تحلف بأنها ما خرجت كرهاً لزوج، أو فراراً لسبب آخر، وقيل: كان امتحانهن بالبيعة الآتية في قوله {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ} [الممتحنة:١٢] إلى آخر الآية في آخر السورة.

ومفهوم هذه الآية الكريمة أن الرجال المهاجرين لا يمتحنون، وأن هذا الامتحان خاص بالنساء فقط، فلم تخصيص النساء بالامتحان؟ يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: وفعلاً لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمتحن من هاجر إليه من الرجال، والسبب في امتحانهن دون الرجال هو ما أشارت إليه هذه الآية في قوله تعالى: ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)) فكأن الهجرة وحدها لا تكفي في حقهن بخلاف الرجال، فالرجل يقبل منه إذا أتى مهاجراً، وأما المرأة فلا يقبل منها، إلا بشرط أن تمتحن هذا الامتحان.

وأما الرجال فقد شهد الله لهم بصدق إيمانهم بالهجرة في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:٨]، وذلك أن الرجل إذا خرج مهاجراً فإنه يعلم أن عليه تبعة الجهاد والنصرة، وهو يعرف جيداً ما الذي تعنيه الهجرة من التضحية بماله، ومفارقة أهله ووطنه، ثم الانتقال إلى المدينة حيث يجب عليه أن يجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ينصره، فلا يهاجر إلا وهو صادق الإيمان، ومستعد لأن يتحمل تبعات هذه الهجرة، لذلك لم يحتج إلى امتحان.

ولا يرد على ذلك حديث مهاجر أم قيس؛ لأنه أمر جانبي، ولا يمنع من المهمة الأساسية للهجرة المنوه عنها في أول السورة في قوله تعالى: {إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} [الممتحنة:١]، وهذا بخلاف النساء، فليس عليهن جهاد، ولا يلزمهن بالهجرة أية تبعة، فأي سبب يواجههن في حياتهن سواء كان بسبب الزوج أو غيره فإنه قد يجعلهن يخرجن باسم الهجرة، والأمر على خلاف ذلك، بل هي هاربة من زوجها لسوء العشرة مثلاً، أو أرادت أن تكيده، كما كان النسوة يهددن أزواجهن أحياناً في مكة، وتقول إحداهن لزوجها: والله لألحقن بمحمد عليه الصلاة والسلام، وليس ذلك إيماناً بالله وبرسوله، فكان ذلك الأمر موجباً للتوثق من هجرتهن، وذلك بامتحانهن؛ ليعلم إيمانهن.

ويرجح هذا المعنى قولُه تعالى: ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ) وفي حق الرجال قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:٨].

ومن جانب آخر: فإن هجرة المؤمنات يتعلق بها حق لطرف آخر وهو زوجها المشرك، فإن هذه الهجرة يترتب عليها أن ينفسخ نكاحها منه، وأن تنقطع العصمة بينهما مباشرة، وأن يعوض هو عما أنفق عليها، وهذه الأمور: من إسقاط حقه في النكاح، وإيجاب حقه في العوض، قضايا حقوقية تتطلب إثباتاً، وذلك يكون بالامتحان، بخلاف هجرة الرجال.