للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الحكمة من حلّ نكاح المسلم الكتابية وحرمة المسلمة على الكتابي

يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: إذا كان الكفر هو سبب فك عصمة الكافرة من المسلم، وتحريم المسلمة على الكافر، فلماذا حلت الكافرة من أهل الكتاب للمسلم، ولم تحل المسلمة للكافر من أهل الكتاب؟ والجواب من جانبين: الأول: أن الإسلام يعلو ولا يُعلا عليه، والقوامة في الزواج تكون من جانب الرجولة قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:٣٤]، فالقوامة واليد العليا في الزواج تكون للرجل وإن تعادلا في الحلِّيَّة بالعقد؛ لأن التعادل لا يلغي الفوارق كما في ملك اليمين، فإذا امتلك رجل امرأة حلَّ له أن يستمتع بها بملك اليمين، وأما المرأة إذا امتلكت عبداً فلا يحل لها أن تستمع به بملك اليمين.

وكذلك باعتبار قوامة الرجل على المرأة وعلى أولادها وهو كافر، فإنه لا يَسْلم لها دينها، فلو تزوجت مسلمة بكافر فإنه لا يصحح دينها، ولا دين أولادها، بل سيفسد عليها دينها هي وأولادها؛ لأن الرجل هو صاحب القوامة.

الجانب الثاني: شمول الإسلام وقصور غيره من الأديان، وينبني عليه أمر اجتماعي له مساس بكيان الأسرة وحسن العشرة؛ وذلك أن المسلم إذا تزوج كتابية فهو يؤمن بكتابها وبرسولها، فيكون معها على مبدأ من يحترم دينها؛ لإيمانه بدينها في الجملة.

وهذا التعبير حساس قليلاً أعني جملة: (يحترم دينها) وذلك أننا معشر المسلمين نؤمن بجميع الأديان وجميع الرسل، فنؤمن بموسى وعيسى ومحمد، وأما الكافر فحتى لو زعم أنه مؤمن بموسى أو بعيسى فهو لا يؤمن بنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يتصور أن مسلماً إذا تزوج كتابية يسب عيسى، أو يسب موسى، أو أحداً من الأنبياء، بحجة أن هذا نبي اليهود أو النصارى، فموسى نبي الإسلام، وعيسى نبي الإسلام وموسى وعيسى عليهما السلام يعاديان هؤلاء الذين حرفوا دين الإسلام الذي بعثا به، فكفروا بسبب ذلك، بدليل أن المسيح سوف يقاتل اليهود، وأن المسيح نفسه إذا نزل في آخر الزمان فإنه سيحكم بالإسلام، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، فإما الإسلام وإما القتل، ولذلك قال تعالى على أحد وجهي التفسير: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء:١٥٩] أي: بالمسيح {قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:١٥٩] قبل موت المسيح عليه السلام حينما ينزل إلى الأرض.

فالشاهد أن المسلم لا يتصور منه أن يؤذيها في موسى، أو في عيسى، وأما الكافر إذا تزوج مسلمة فإنه سوف يؤذيها في نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

فلا تعلم أمة هي أشد تعظيماً للأنبياء، وأشد حفظاً لحرمتهم من المسلمين، فهؤلاء اليهود والنصارى في هذه المسألة يشتركون في الهوى، فإن النصارى يؤمنون بالتوراة وبالإنجيل، واليهود يؤمنون بالتوراة، فالتوراة التي هي فاصل مشترك بينهم اشتملت على نصوص كثيرة فيها سب مُقذع للأنبياء، فسليمان عليه السلام ليس بنبي عندهم؛ بل هو مَلِك، وأما عندنا فسليمان نبي معصوم.

وعندهم أن سليمان عليه السلام عبد الأصنام قبل موته، وأنّ داود عليه السلام فعل كذا وكذا من الفواحش، وشرب الخمر والعياذ بالله، وأن لوطاً عليه السلام فعل كذا، فتجدهم ينسبون كثيراً من الفواحش التي يتأذى أفسق الفساق أن تنسب إلى الأنبياء عليهم السلام، فهم لا يعرفون حرمة الأنبياء، لذلك فنحن أولى بالأنبياء منهم، فبالتالي لا يتصور أن مسلماً يسب موسى أو عيسى عليهما السلام، ومن فعل ذلك فإنه يخرج من ملة الإسلام.

وأما ما حصل في الحوادث الأخيرة من أنّ بعض الإخوة الفلسطينيين هدموا ضريح يوسف عليه السلام، فأخبرتُ أنّ بعض الناس حاول إقناعهم بأننا نقدس ضريح يوسف عليه السلام، فأقول: نحن لا نقدس الأضرحة، ثمّ من ذا الذي قال: إن هذا الضريح ليوسف عليه السلام؟! فإنه عاش في مصر، وطلب أهله فجاءوا إلى مصر، ومات ودفن في مصر، أما أن يظن أن هذا هو ضريح يوسف عليه السلام فهذا غير صحيح، فإنه لا يقطع بضريح نبي من الأنبياء غير نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وما عدا ذلك فإنه لا يعلم على وجه التحديد.

فالشاهد: أنّ هذا الجدال ليس في محله؛ لأن يوسف عليه السلام عاش في مصر، ومات فيها، ودفن فيها.

وكذلك أيضاً فإن المرأة الكتابية إذا كانت تحت المسلم الموحد فإنه قد يكون هناك مجال للتفاهم والتواد بينهما، فلعل ذلك يكون سبباً في دخولها في الإسلام، وقد وقع هذا كثيراً، فالأخ المسلم بحسن خلقه، واجتهاده في طاعة الله سبحانه وتعالى، وحسن أسلوبه، يجل الزوجة تنقاد إلى الدخول في الإسلام، ونتذكر هنا حادثة ثمامة بن أثال حينما أسر، وربطه النبي عليه الصلاة السلام في سارية من سواري المسجد، وجاء في القصة: (أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام في أول يوم أتاه فقال له: كيف تجدك يا ثمامة؟! قال: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن كريم، وفي اليوم الثاني هدأت اللهجة، فسأله النبي عليه الصلاة السلام، فقال له: إن تعف تعف عن كريم، وإن تقتل تقتل ذا دم)، ففي المرة الأولى بدأ بالقتل وفي الثانية بالعفو، وفي اليوم الثالث أطلق النبي عليه الصلاة والسلام سراحه، فذهب ثمامة فاغتسل، ثم أتى وشهد الشهادتين.

وهذه حكمة تربوية رائعة جداً، وهي أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحبس هذا الأسير في منزل، أو في حجرة، وإنما ربطه في سارية من سواري المسجد؛ حتى يراقب المسلمين، ويرى أخلاقهم، ويسمع كلامهم في التوحيد وغيره، ويرى آيات النبوة، ويرى حسن خلق المسلمين، ويرى نموذجاً حياً للمجتمع المسلم، فالمسجد في ذلك الوقت كان هو المركز للواقع الحياتي بالنسبة للمسلمين، فيرى صورة الإسلام مرسومة على الواقع، فأسلم بسبب أنه رأى هذا النموذج المبشر بالخير.

وعلى الجهة الأخرى -للأسف الشديد- فإن الزوج إذا كان غير ملتزم فإنه ينفرها من الدين، بل وجدت حالات أن المرأة أسلمت، ثم هي تشكو من زوجها الذي يضربها، ولا يصلي الفجر، وغير ذلك من الشكاوى.

فالشاهد من الكلام: أن المرأة المسلمة إذا كانت تحت كافر فلن يرقب فيها إلاً ولا ذمة، وربما آذاها في نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وفي القرآن، وفي الإسلام، وخاصة أن المستشرقين والكفار قد أوصلوا كثيراً من الشبهات التي يرددونها إلى كثير من الناس، فربما يرددها كثير من الناس على حد قول الكافر: (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته).

وكذلك الذرية سوف تتأثر بالأب، وبالتالي يكونون مشركين، فالمرأة نفسها يمكن أن تفتن في دينها، وإذا فسد القوام عم الفساد جميع الأقوام.

وأيضاً فنكاح الكتابيات لا ينبغي التساهل فيه في هذا الزمان؛ لأن القوامة الآن لا تكون كما يريد الزوج المسلم، ففي المجتمع الغربي بجانب تبرج المرأة واسترجالها هناك أمر آخر أخطر من ذلك، وهو أن القوانين التي تعلو الناس هناك تعطي المرأة حقوقاً مبالغاً فيها، بحيث إن الرجل لابد أن يخضع -شاء أم أبى- لكثير من قوانينهم التي ربما يترتب عليها أنها تستأثر بالأولاد، فتسميهم بأسماء النصارى، فيكونون من الذرية الكفار، والحوادث في ذلك كثيرة.

فعلى أي الأحوال: فإن الكتابي إذا تزوج امرأة مسلمة فهو لا يؤمن بدينها، ولا يحترم دينها، ولا يوجد مجال للتفاهم معه في أمر هو لا يؤمن به بالكلية، فلا جدوى من هذا الزواج؛ لذلك مُنع منه ابتداء، لكن لا توجد هذه المشاكل فيما يتعلق بزواج الكتابيات، مع أن كثيراً ما يطلق عليهن الآن وصف كتابيات وهن في الحقيقة لم يعدن كتابيات، فالكتابية هي التي تؤمن بعيسى أو بموسى، أو بدينهما حتى مع تحريفهم له، وأما الآن فمعظمهن وثنيات لا دين لهن، وهذا حكم عام سواء في الزواج أو في الذبائح؛ لأنهن في الغالب لم يعدن أهل كتاب: لا نصارى ولا يهود ولا غير ذلك، فهذا أمر ينبغي الانتباه له، وسبق أن وضحناه بالتفصيل في محاضرة: (حكم نكاح الكتابيات).

وقد تكلم أحد العلماء أيضاً في الحكمة من إباحة زواج المسلم بالكتابية، وحرمة زواج المسلمة بالكتابي، فيقول: إن المسلمين يؤمنون بجميع الأنبياء الذين منهم موسى وعيسى، ويؤمنون بكتب الله المنزلة كلها، لكن الكتابيين -وهم اليهود والنصارى- لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا بكتابه، ويوجهون إلى شخصه الكريم وكتابه العظيم جملة من المطاعن التي تنبئ عن داء دفين، وحقد كمين، والمنصفون منهم يعترفون بعظمته، ولا يؤمنون بنبوته، فمن ثَم جاز لنا أن ننكح نساءهم، ولم يجز لهم أن يتزوجوا نساءنا، فهذه حكمة.

وحكمة ثانية: وهي أن الإسلام دين التسامح، فلا يجيز إكراه أي شخص على اعتناقه، وهو يعتمد في نشر دعوته على الإقناع بالحجة والبرهان، قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:٢٥٦]، فحين يتزوج المسلم بكتابية فإنه لا يكرهها على مفارقة دينها، بل يدعها حرة في عقيدتها، ولا يحل له شرعاً أن يكرهها على الدخول في الإسلام.

وليس معنى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أننا لا نبين الحق، ولا ندعوها إلى سماحة الإسلام، ونقدم لها الحق، وكذلك ليس معناها أن نمتنع نحن عن إبطال العقائد الشركية، والأديان المحرفة، وإقامة الأدلة على صدق النبوة والتوحيد وغيرها! فإن هذا ليس من الإكراه، فأنت تعطي اليهود بضاعتك.

فحين يتزوج المسلم بكتابية فإنه لا يفكر في إكراهها على مفارقة دينها، وأما الكتابي إذا تزوج بمسلمة فإنه يحاول إخراجها من دينها بمختلف الوسائل ولو بالتهديد، يقول: والشواهد على ذلك كثيرة أقربها: أن نضلة أم الملك فاروق تزوجها طبيب أمريكي، فأخرجها عن دينها فهي الآن نصرانية -وهذا الكتاب مطبوع سنة (١٩٦٨م) - وبنتها فتحية تزوجها قبطي مصري بدعوى أنه أسلم، ثم تبين عدم إسلامه، فحملها على أن تنصرت معه، وأخذ مالها وفارقها، وقد تزوج فرنسيون بمسلمات جزائريات أيام استعمارهم للجزائر، فأخرجوهن عن دينهن بترغيب مشوب بترهيب