للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها)

قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:١١].

((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً)) سبب نزولها: أنه كان بأهل المدينة فاقة وحاجة، فأقبلت عير من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً.

((أَوْ لَهْوًا)) أي: ما تلهو به النفس عن الحق والجد النافع.

((انفَضُّوا إِلَيْهَا)) أي: أسرعوا إلى التجارة خشية أن يسبقوا إليها وإنما أوثر ضميرها فقال: ((انفَضُّوا إِلَيْهَا)) ولم يقل: (انفضوا إليهما) ولا قال: (انفضوا إليه)؛ لأن التجارة هي الأساس، أما اللهو فهو شيء تابع.

يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: في عود الضمير على التجارة وحدها مغايرة لذكر اللهو معها.

قال الزمخشري: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.

وذكر قراءة أخرى: (انفضوا إليه) بعود الضمير إلى اللهو، وهذا التوجيه قد يسوغ لغة كما في قول نابغة ذيبان: وقد أراني ونعماً لاهيين بها والدهر والعيش لم يهمم بإمرار فهنا ذكر الدهر والعيش وأعاد عليهما ضميراً منفرداً؛ اكتفاء بأحدهما عن الآخر للعلم به، وهو كما قال ابن مالك: وحذف ما يعلم جائز أي: وحذف ما يعلم من السياق جائز.

فلم يقل: (يهمّا)، فهو كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:٨١] أي: تقي الحر وتقي البرد، فاكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الآخر.

لكن المقام هنا خلاف ذلك، وقد قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى عن هذه الآية في دفع إيهام الاضطراب: لا يخفى أن أصل مرجع الضمير هو الأحد الدائر بين التجارة واللهو.

أي: أن الضمير يعود إلى أحد الأمرين التجارة أو اللهو.

قال: بدلالة لفظة (أو) على ذلك.

أي: فإنه قال: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا)) أي: إذا رأوا أحد الأمرين.

قال: ولكن الضمير رجع إلى التجارة وحدها دون اللهو، فبينه وبين مفسره بعض منافاة في الجملة.

و

الجواب

أن التجارة أهم من اللهو، وأقوى سبباً في الانفضاض عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم انفضوا من أجل العير، واللهو كان من أجل قدومها.

مع أن اللغة يجوز فيها رجوع الضمير لأحد المذكورين قبله، أما في العطف بـ (أو) فواضح، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء:١١٢]، وأما (الواو) فهو فيها كثير مثل قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا} [البقرة:٤٥].

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:٦٢].

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:٣٤].

قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا} [النساء:١١٢] الخطيئة والإثم متساويان في النهي والعصيان.

وكذلك قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:٤٥] فالصبر هو حبس النفس على الطاعة، والصلاة هي جزء من الصبر، ووجود الأخف يقتضي وجود الأعم؛ لأن الصلاة وسيلة للصبر: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).

كذلك قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا} [التوبة:٣٤] فالضمير في قوله: (ولا ينفقونها) عائد على الفضة؛ لأن كنز الفضة أكثر، وصورة الكنز حاصلة فيها بصفة أوسع لدى كثير من الناس، فكان توجيه الخطاب إليهم بها أولى، والقيمة النقدية للفضة أقل والذهب أعظم، فكأن هذا تنبيه بالأدنى على الأعلى، فكأنه أشمل وأعم وأشد تخويفاً للناس! أما الآية هنا فإن التوجيه الذي وجهه الشيخ رحمه الله تعالى لعود الضمير على التجارة، فإنه في السياق ما يدل عليه، وذلك في قوله تعالى بعدها: ((قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ)) فذكر السببين المتقدمين لانفضاضهم عنه صلى الله عليه وسلم، ثم عقبه بقوله تعالى، بالتذييل المشعر بأن التجارة هي الأصل بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:١١] والرزق ثمرة التجارة.

ونقل أبو حيان عن ابن عطية: تأمل إن قدمت التجارة على اللهو في الرؤيا؛ لأنها أهم، وأُخرت مع التفضيل؛ لتقع في النفس أولاً على الأبين.

يريد بقوله: (في الرؤيا) قوله: ((وَإِذَا رَأَوْا)) وبقوله: (مع التفضيل) قوله: ((قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ)) أي: لأن اللهو أبين في الظهور.

يقول: والذي يظهر والعلم عند الله تعالى أنه عند التفضيل ذكر اللهو للواقع فقط؛ لأن اللهو لا خير فيه مطلقاً فليس محلاً للمفاضلة، وأخر التجارة لتكون أقرب للرزق؛ لارتباطهما معاً؛ لأن التجارة من الأصلح كونها عند الله خيراً من اللهو.

فلو قدمت التجارة هنا لكان ذكر اللهو فاصلاً بينها، فلو قال: (قل ما عند الله خير من التجارة ومن اللهو والله خير الرازقين).

لكان أنسب أن تؤخر التجارة حتى تكون ملتصقة بما هو مرتبط بها وهو الرزق.

وقال الشهاب في قوله تعالى: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً)): كما قلنا إنها التجارة.

((أو لهواً)) أي: ما تلهو به النفس عن الحق والجد والنفع.

((انفَضُّوا إِلَيْهَا)) أي: أسرعوا إلى التجارة خشية أن يسبقوا إليها، وإنما أوثر ضميرها لأنها الأهم والمقصود.

((وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)) على المنبر.

((قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ)) أي: من الثواب المرجو بسماع الخطبة والعظة بها.

((خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ))؛ لأن الثواب مخلد نفعه، بخلاف ما يتوهمونه من التجارة فثوابها نافذ.

وقال الشهاب أيضاً: وتقديم اللهو؛ لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام الذم.

((وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده، ويرزق من يكفر به ويجحده، فهو يعطي من سأل ويبتدئ بالإعطاء من لا يسأل، وغيره إنما يرزق من يرجو منفعته ويقدر على خدمته، ويقبل على خدمته، حتى الذي يعطي شخصاً فقيراً صدقات مثلاً فهو يعطيه هذه النفقة لأجل منفعة، وهي أنه يقصد بذلك الثواب والأجر في الآخرة، أما الله سبحانه وتعالى فهو الغني الحميد، والله غني عن عباده، فقوله تعالى: ((وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) أي: اعملوا الأعمال الباقية عنده، فإنها خير من الأمور الفانية عندكم، وفوضوا أمر الرزق إليه بالتوكل والثقة بفضله فإنه خير الرازقين.