للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (خلق السموات والأرض بالحق)]

يقول تبارك وتعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن:٣].

قوله: ((خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ)) أي: بالحكمة البالغة التي ترشد إلى المصالح الدينية والدنيوية.

وقال القرطبي: أي: خلقها حقاً يقيناً لا ريب فيه، وقيل: (الباء) بمعنى (اللام) في قوله: (بِالْحَقِّ) أي: للحق.

ما هو هذا الحق؟ هو أن يجزي الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى.

قوله: ((وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)) أي: حيث برأكم في أحسن تقويم كما قال عز وجل {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:٤]؛ وذلك أنه تعالى جعل الإنسان معتدل القامة على أحسن هيئة، وهذه بلا شك من معاني خلق الإنسان في أحسن تقويم، فإذا قارنت الإنسان بغيره من الدواب والمخلوقات لوجدت هذا التكريم العظيم، أولاً في الهيئة والصورة، فلا يوجد مخلوق هو أحسن هيئة من الإنسان؛ لأن من المخلوقات من يزحف على بطنه، ومن يمشي على أربع، أما الإنسان فهو المختص بأنه يمشي على رجلين معتدل القامة بقدرة الله تبارك وتعالى.

وآتاه نعمة العقل الفارقة بين الإنسان وبين الحيوان، فهذا أيضاً من خلق الإنسان في أحسن تقويم.

وآتاه قوة النطق حتى إنهم ليقولون: الإنسان حيوان ناطق.

كذلك آتاه قوة التصرف في المخلوقات بحيث سخرها الله عز وجل له.

كذلك القدرة على أنواع الصناعات، فالإنسان عنده من الطاقات والقدرات ما جعله الله عز وجل بها قادراً على تسخير ما في الأرض لصالحه، وهذا هو المعنى الأقرب، وإن كان بعض العلماء قالوا: ((وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي: صور أباكم آدم عليه السلام وخلقه بيده كرامة له، لكن القول الأقرب أنه خلق جميع الخلائق وجعل الإنسان أحسن الحيوانات كلها وأبهاها صورة، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، هل يوجد إنسان يتمنى أن يكون سمكة أو عصفواً أو قرداً أو حصاناً؟ يستنكف الإنسان من ذلك، فهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى كرمه قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:٧٠]، والمخلوقات كلها مسخرة من أجل هذا الإنسان، وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى خلقه في أحسن صورة وفي أحسن تقويم، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكس كالحيوانات التي تمشي على أربع أو غير ذلك، كما قال عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:٤]، فمن خلقه الله في أحسن تقويم هل يليق أن يزعم الزاعمون الكذابون أن الإنسان والشمبانزي (القرد) ينحدران من أصل واحد كما يزعم الضال داروين ومن تابعه؟ لا يمكن أبداً، وهذا الكلام لا يقوله إلا ملحد، أما نحن فقد علمنا حقيقة خلقنا بالوحي، فالله سبحانه وتعالى أخبرنا عن هذا الغيب؛ لأنا لم نر آدم عليه السلام، وإنما كان آدم يعرف ربه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:٣٧]، {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:٢٣] أي: كان آدم وحواء يعرفان الله، وكانا على التوحيد، وكانا على أكمل صورة، وآدم كان نبياً كما جاء في الحديث، أما هؤلاء الملاحدة فإنهم يصورون ما يسمونه بالإنسان الأول على أنه أقرب ما يكون من القردة، ومن ثم يترقى كذا وكذا! فهذا مما يتصادم صراحة مع قول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:٤].

قوله: ((وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)) أي: المرجع فيجازي كلاً بعمله.