للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت)]

قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:٢٤٣].

(ألم تر) بمعنى: ألم تعلم، والرؤية إما تكون رؤية بصرية، وإما أن تكون بمعنى الرؤيا العلمية، كقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:١] يعني: ألم تعلم، وكذلك هنا (ألم تر) يعني: ألم تعلم.

(ألم ترى إلى الذين خرجوا) يعني: ممن تقدمكم من الأمم، خرجوا من ديارهم التي ألفوها لما وقع فيها مالا طاقة لهم به من الموت، وقع بهم كرب وبلاء، إما أنه الطاعون كما جاء في بعض الروايات، وإما أنهم دعوا إلى الخروج من ديارهم التي اعتادوا عليها وألفوها إلى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، والأظهر أنهم دعوا إلى الخروج إلى الجهاد.

ولفظة (ألم تر) قد تذكر لمن تقدم علمه بالفعل، وقد تذكر لمن لم يتقدم له علم بالفعل.

فيمكن أن يكون المعنى ألم تعلم.

ويمكن أن تقال لشخص علم بالفعل وقُصد من هذه الصياغة التعجب أو التعجيب، والتقرير والتذكير، كما تقول -مثلاً-: ألا ترى إلى ما يصنع فلان؟! ويكون قد علم ما يصنع فلان، لكن المقصود منه التعجب من فعله ومن حاله.

فقوله عز وجل هنا: (ألم تر) تقال لمن تقدم علمه، فتكون للتعجيب والتقرير، كإخبار من يعرف التاريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه.

وفعل (رأى) متعدٍّ أصلاً، ولا يحتاج إلى حرف الجر (إلى)، لكن لما ضمن الفعل معنى (تنظر) عدي بـ (إلى)، يعني: ألم تنظر إلى، وفائدة استعارته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له.

(ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف) ألوف في العدد جمع ألفٍ، أو ألوف جمع آلف، كشاهد جمعها شهود، كذلك (وهم ألوف)، وهذا قول آخر، بمعنى أنهم خرجوا وهم مؤتلفون، لم يدفعهم إلى الخروج من ديارهم أنهم كانوا متقاتلين فيما بينهم أو متناحرين أو متخاصمين، إنما كانوا مؤتلفين.

فقوله تعالى: (وهم ألوف) إما أن يكون في العدد جمع ألف، أو: وهم ألوف مؤتلفون ومجتمعون جمع آلف بالمد كشاهد وشهود.

أي: إن خروجهم لم يكن عن افتراق كان منهم وخصام، ولكن حذر الموت، و (حذر) مفعول له، أي: فراراً من الموت.