للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المعاقبة بالاستدراج للغافل]

وإن أعظم عقوبة يسلطها الله سبحانه وتعالى على العبد أن ينسيه نفسه؛ لأن العقوبات تتنوع، فهناك عقوبات ظاهرة، ومنها الحدود الشرعية، كقطع يد السارق، ونحو ذلك، ومنها عقوبات كونية قدرية، كالزلازل والخسف والقذف، وهناك عقوبات خفية، والعقوبة الخفية هي أخطر أنواع العقوبة؛ لأن العقوبة الظاهرة يمكن للإنسان أن ينتبه بسببها إلى أنها من غضب الله وسخطه عليه، وحينئذٍ يبادر إلى التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، لكن العقوبة الخفية يعاقب بها ولا يشعر بأنه يعاقب، بل يزين له المعاصي ويتمادى إلى أن يأخذه الله سبحانه وتعالى أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).

فهل سمعت عن جبار من الجبابرة في مراحل التاريخ حينما أتت لحظة موته وأخذه وإهلاكه استطاع أن يفلت من ملك الموت؟! إن هذا لا يمكن أبداً مهما طغى وتجبر كفرعون وأمثاله، فلا يغتر الإنسان بظاهر ما عليه الكفار أو الظالمون أو العصاة أو المفرطون، وإنما عليه أن يعلم أن هذا استدراج وعقوبة بالنسيان، كما قال الله تبارك وتعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:٦٧] أي: تركهم ولم يبتلهم بما ينبههم إلى الخطر الذي يترصدهم، فلم يفكروا في عواقب أنفسهم ومصيرهم في الآخرة.

فالغفلة عن المصير في الآخرة، والغفلة عن عقوبة الله تبارك وتعالى قد تكون أشد العقوبات، وهي العقوبة الخفية غير الظاهرة؛ لأن هذا يزين له سوء عمله وحينئذٍ لا يتوب، بل يحال بينه وبين التوبة، فإذا أتاه الموت نقل إلى العذاب الأليم، فكان كل ما مضى استدراجاً.

ومثال ذلك -ولله المثل الأعلى- البوليس حين يتتبع شخصاً مرتكباً للجريمة وهو يريد أن يقبض عليه في حالة معينة أو في وضع معين، فيظل يراقبه ويتربص به ويملي له حتى يشعر بالأمان، فإذا حانت لحظة القبض عليه لا يستطيع أن يفلت، ولله المثل الأعلى.

فقوله تعالى: (وأملي لهم) أي: أمهلهم وأنسئ في آجالهم ملاوة من الزمان لتكتمل حجة الله عليهم.

أي: كيدي لأهل الكفر شديد قوي.

قال الزمخشري: الصحة والرزق والمد في العمر إحسان من الله وإفضال يوجب عليهم الشكر والطاعة، ولكنهم يجعلونه سبباً في الكفر باختيارهم، فلما تدرجوا به إلى الهلاك وصف النعم بالاستدراج، وقيل: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه! وسمَّى إحسانه وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة كيد، حيث كان سبباً للتورط في الهلكة، ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك.

يعني أن هذا الإحسان الذي أحسن الله به إليه كان له أثر كبير في إيجاد الهلاك له.