للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد)]

قال عز وجل في جواب القسم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:٤] أي: في شدة يكابد الأمور ويعالجها في أطواره كلها، من حمله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة وإما في النار، من بداية ما يحصل الحمل به وهو نطفة مذرة ثم يستمر نموه شيئاً فشيئاً إلى أن يخرج من بطن أمه باكياً، ثم ينمو ويمر بالأطوار التي يمر بها كل إنسان من الطفولة، إلى الصبا، إلى الشباب، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة، إلى الموت، إلى القبر، إلى البعث والنشور، إلى أهوال يوم القيامة، ومقداره خمسون ألف سنة، إلى الميزان، إلى الصراط، ثم إلى نهاية الرحلة وهي الاستقرار في دار القرار إما في الجنة وإما في النار، فالإنسان في كل هذه المراحل يكابد المشاق، ولا يخلو الإنسان أبداً من المشاق.

قال الزمخشري: الكبد مأخوذ من قولك: كبد الرجل كبداً فهو أكبد إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع في هذا التعبير حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه، وأصله كبده، إذا أصاب كبده، قال لبيد: يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد أي: في شدة الأمر وصعوبة الخطب.

وفي هذه الآية الكريمة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من قريش من جهة أن الإنسان لم يخلق للراحة في الدنيا، وكل من كان أعظم إيماناً فهو أشد نصباً.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) يعني: كل إنسان يعاني ويكابد المشاق، فهذه سنة الله الماضية، وهذا فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من قريش، من جهة أن الإنسان لم يخلق للراحة في الدنيا، ولذلك لما قيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: إذا خلف جسر جهنم وراءه.

فالإنسان لا يجد الراحة إلا إذا مر على الصراط، ونجا من أهوال يوم القيامة، وأبصر النار بعيدة عنه، وأوشك أن يدخل الجنة، فعندها يجد طعم الراحة، أما قبل ذلك فهو في كبد، فمن يطلب الراحة في الدنيا فهو يطلب المحال؛ لأن الدار التي ليس فيها نصب هي الجنة فقط كما قال الله عنهم: {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:٣٥]، أما الدنيا فلا يمكن أبداً أن يجد الإنسان فيها الراحة دائماً، فكل إنسان لم يخلق للراحة، وكل من كان أعظم إيماناً فهو أشد نصباً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه قوة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة).

قال القاسمي رحمه الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) أي: مكابدة ومشقة، ومما ابتلي به هواه فهو معه في صراع ومجاهدة كما قال الشاعر: إني ابتليت بأربع يرمينني بالنبل قد نصبوا علي شراكا إبليس والدنيا ونفسي والهوى من أين أرجو بينهن فكاكا فالعبد في مكابدة ومشقة مع نفسه وهواه والدنيا والشيطان.

والكبد مصدر القوى الطبيعية، فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل.