للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ما ودعك ربك وما قلى)]

قال تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:٣]، هذا هو جواب القسم، والمعنى ما تركك وما قطعك قطع المودع.

قال الشهاب في العناية: إنه عبر عن التوديع بالترك هاهنا، وفيه من اللطف بالنبي عليه الصلاة والسلام والتعظيم له ما لا يخفى؛ فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته، كما قال المتنبي: حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا فلم أدر أي الظاعنين أشيع والمعنى: أن هذا المحبوب لما حصل الفراق وودعنا، فروحي ونفسي أيضاً فارقتني معه ليس هو وحده فقط، حتى إنني احترت أي واحد منهما أودع، أَأُودع هذا المحبوب الذي فارقني أم أودع روحي أو نفسي التي فارقتني أيضاً؟! فهذا شاهد على أن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته.

وقيل في شرح الوداع: الوداع له معنيان في اللغة: الترك، وتشييع المسافر، فإن فسر بمعنى تشييع المسافر على طريق الاستعارة يكون فيه إيماء إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يتركه أصلاً، وأنه معه أينما كان في كل حال وفي كل زمان، أما الترك لو تصور في جانبه فهو يدل على الرجوع، فالتوديع إنما يكون لمن يحب ويرجى عوده، وإليه أشار الأرجاني بقوله: إذا رأيت الوداع فاصبر ولا يهمنك البعاد وانتظر العود عن قريب فإن قلب الوداع عادوا أي: أن قلب كلمة (عادوا) هو (وداع).

فهذا فيما يتعلق بالتوديع.

والتوديع كما يقول أبو حيان: مبالغة في الودع؛ لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك.

كما قلنا: إن التوديع يكون بالترك، ويكون بتشييع المسافر.

وقوله عز وجل: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)، يعني: ما تركك وما أعرض عنك، فهذا يؤكد نفس المعنى في قوله تعالى: (مَا وَدَّعَكَ).

وقال بعضهم: وهذا لم أر من ذكره مع غاية لطفه، وكلهم فسروه بالمعنى الأول: (وَدَّعَكَ) بمعنى: تركك.

ولما رأوا صيغة الفعل تفيد زيادة المعنى والمبالغة فيه، فيقتضي الانقطاع التام، قالوا: إن المبالغة في النفي لا في المنفي.

وقرئ: (ما وَدَعَكَ) بالتخفيف، يعني: ما تركك.

وهناك شاهد من السنة في استعمال كلمة ودع بمعنى ترك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره)، قوله: (من ودعه) يعني: تركه الناس وابتعدوا عنه، اتقاء لسانه وبذاءته وفحشه.

وورد شاهد أيضاً في الشعر يقول الشاعر: فكان ما قدموا لأنفسهم أعظم نفعاً من الذي ودعوا يعني: من الذي تركوا.

وقال أبو الأسود: ليت شعري عن خليل ما الذي نما له في الحب حتى ودعه يعني: حتى تركه.

وقال الشاعر أيضاً: وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر يعني: هناك تركنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف السيوف.

وبعضهم استبعد قراءة اسمها: (ودعت) باعتبار أن استعمال ودع في اللغة العربية نادر، لكن يكفي أن القرآن الكريم ورد به، فما دامت صحت هذه القراءة فلا عبرة في هذه الحالة بكلام النحاة.

وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وإن كان استعمالها نادراً.

وقد كان أحد الأدباء يكتب مقالات لبعض المجلات السيارة فلما عنّ له السفر كتب يودع القراء بقوله: أودعكم والله يعلم أنني أحب لقاكم والركون إليكمُ وما عن قلى كان الرحيل وإنما دواعٍ تبدّت فالسلام عليكمُ قوله: (وما عن قلى كان الرحيل) يعني: ليس هذا الرحيل عنكم هجراً ولا إعراضاً ولا بغضاً؛ لأن القلى يكون تركاً ينضم إليه بغض.

فقوله تعالى: (وَمَا قَلَى) يعني: ما هجرك عن بغض.

وقال الشهاب: وحذف مفعول قلى اختصاراً للعلم به، وهنا عدة أراء: قوله: (وَدَّعَكَ) فالمفعول هنا هو حرف الكاف، بينما هنا في كلمة (قلى) اقتصر على الفعل وحذف المفعول، الذي هو الكاف، فقال بعضهم: إنما اختصرها للعلم بها، وليجري على نهج الفواصل التي في السورة: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:٣ - ٥]، أو لئلا يخاطبه بما يدل على البغض، فمجرد وضع الضمير مع الفعل لم يرضه الله لنبيه عليه الصلاة والسلام، فما بالك بالفعل نفسه، فهو سبحانه لم يقل: (وما قلاك) مع أنه ينفيها، لكن أراد ألا يتعب قلب نبيه عليه الصلاة والسلام إذا قرن الضمير بالفعل مثل قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} إلى قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} [الأحزاب:٣٥]، فقوله: (والذاكرات) أي: والذاكرات لله كثيراً، لكن حذفت للعلم بها، وأيضاً مراعاة للفواصل.

يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (وَمَا قَلَى) حذف كاف الخطاب لثبوتها في قوله: (ودعك) فدلت عليها.

وقال بعضهم: تركت لرأس الآية، يعني: مراعاة للفواصل، والذي يظهر من لطيف الخطاب ورقيق الإيناس ومداخل اللطف، أن الموادعة تشعر بالوفاء والود، يعني: كلمة التوديع مأخوذة من توديع المسافر.

مثلاً: الذي يودع المسافر ويخرج معه مسافة هم أحبابه الذين يريدون أن يبقوا معه إلى آخر لحظة ممكنة، حتى يتحرك القطار.

إذاً: التوديع يكون فيه ملاطفة وود ومحبة ووحدة، فالموادعة تشعر بالوفاء والود، فمن ثم أبرزت فيها كاف الخطاب (مَا وَدَّعَكَ) يعني: لم تتأت موادعتك وأنت الحبيب والمصطفى المقرب صلى الله عليه وسلم.

أما (قلى) ففيها معنى البغض فلم يناسب إبرازها؛ إنعاماً في إبعاد قصده صلى الله عليه وسلم بشيء من هذا المعنى؛ لأنه ما قلاه، كما تقول لعزيز عليك: لقد أكرمتك وما أهنت، ولقد قربتك وما أبعدت، وهذا المثال فيه إمعان في نفي الإهانة ونفي الإبعاد.

والقلى يمد ويقصر وهو يعني: البغض.

يقول الشاعر: أيام أم الغمر لا نقلاها ولو تشاء قفلت عيناها وقال كثير عزة: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت جاء في السيرة ما يشهد لهذا المعنى ويبين دوام موالاته سبحانه وتعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم وعنايته به وحفظه له، فهو سبحانه ما تركه أبداً، فقد سخر له سبحانه عمه أبا طالب لينصره ويحفظه وقال عمه أبو طالب في ذلك شعراً: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفيناً هذا ناشئ عن محبة طبعية؛ لأنه ابن أخيه، لكن ليست محبة شرعية.

وذكر ابن هشام في رعاية عمه له صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا جن الليل وأرادوا أن يناموا فرش لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أولاده، حتى إذا أخذ كل مضجعه عمد عمه إلى واحد من أبنائه فأقامه وأتى بمحمد صلى الله عليه وسلم لينام موضعه، ويجعل ولده مكان محمد صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان هناك من رأى مكانه في أول الليل ثم جاء يريده بسوء وقع السوء لابنه، وسلم محمد صلى الله عليه وسلم، كما فعل الصديق رضي الله تعالى عنه عند الخروج إلى الهجرة في طريقهما إلى الغار.

(لقد كان أبو بكر رضي الله عنه في طريق الهجرة تارة يمشي أمامه صلى الله عليه وسلم وتارة يمشي وراءه، فسأله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك) يعني: أتذكر العدو فأكون أمامك حتى إذا كان هناك سوء يصيبني قبلك، ثم أتذكر الطلب من الخلف فأكون وراءك حتى إذا كان هناك سوء يصيبني ولا يصيبك.

ويقول القاسمي رحمه الله تعالى: روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن أبطأ عنه جبريل أياماً فعير بذلك، فقال المشركون: ودعه ربه وقلاه، فأنزل الله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:٣]) وفي رواية: (إن قائل ذلك إمراة أبي لهب) وفي أخرى: (إنها خديجة رضي الله تعالى عنها) ولا تنافي لاحتمال وقوعه من الجميع، إلا أن خديجة لو صح أنها قالت له ذلك فيكون على سبيل التوجع والحزن والأسف.

وفي رواية إسماعيل مولى آل الزبير قال: (فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأحزنه، فقال: لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني -يعني: جبريل- فجاء جبريل بهذه السورة {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:١ - ٢]).