للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وما أمروا إلّا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)

قال تبارك وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [البينة:٥].

قوله: ((وَمَا أُمِرُوا)) أي: والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، أي: موحدين لا يعبدون سواه، ومذعنين خاضعين لا يشركون بالله سبحانه وتعالى شيئاً: لا واسطة، ولا مالاً، ولا كرامة، ولا جاهاً.

إذاً: فأهل الكتاب تفرقوا بعد ما جاءتهم البينة، مع أن المفروض أن البينة والعلم تجعلهم يتحدون وينقادون لها، ومع ذلك أعرضوا عنها.

فالواو في قوله: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) واو الحال، أي: والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، فهذا يقتضي أن يؤمنوا به، فيأتي النبي، وتأتي البينة، ويأتي القرآن يدعوكم إلى أن تعبدوا الله وحده مخلصين له الدين، فعلام التفرق والأمر في غاية الوضوح؟! ولذلك فأنا أعجب من عقلية هؤلاء اليهود والنصارى وغيرهم؛ فالمسلمون لا يدعونهم إلى عبادة محمد عليه الصلاة والسلام، ولا ادعاء أنه ابن لله، ولا إلى عبادة الأصنام والأحجار، وإنما يدعونهم إلى عبادة الله الواحد الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، فهل مثل هذا يعرض عنه الإنسان؟! قوله تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا)) أي: والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم ((إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) واللام في قوله: ((إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ)) بمعنى: (أن) والمعنى: وما أمروا إلا أن يعبدوا الله، قال الفراء: والعرب تجعل اللام في موضع (أن) في الأمر والإرادة كثيراً، فأحياناً يستعملون اللام مكان (أن) كقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء:٢٦] أي: يريد الله أن يبين لكم، وهذا يتعلق بالإرادة، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:٨] فمعناه: يريدون أن يطفئوا، وقال في الأمر: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٧١]، أي: وأمرنا أن نسلم، وهذا في الأمر، فهذا له شواهد كثيرة كما بينا.

فقوله: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) أي: أن يكونوا موحدين لا يعبدون سواه، ((حُنَفَاءَ)) أي: مائلين عن الأديان كلها إلى الإسلام، فالحنيف: هو المائل، والحنف الذي يكون في السقف هو الميل الذي يكون في السقف.

فمعنى (حنيفاً) أي: مائلاً عن الأديان ومعرضاً عنها إلى دين الإسلام، والحنفية هي ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ((حُنَفَاءَ)) أي: متبعي إبراهيم عليه السلام، أو على مثاله، وأصله: جمع حنيف وهو المائل المنحرف، وسمي به إبراهيم عليه السلام؛ لانحرافه عن وثنية الناس كافة.

قوله: ((وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ)) أي: يقيمون الصلاة المكتوبة، ويأتون بها بحدودها، وفي أوقاتها، بإحضار القلب هيبةَ المعبود، وترهيبه به، وأن تكون بخشوع لا أن تكون الصلاة مجرد حركات ظاهرة، فإن ذلك ليس من الصلاة في شيء البتة.

وقوله: ((وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ)) أي: عند وجوبها، وذلك بصرفها في مصارفها التي عينها الله تبارك وتعالى.

قوله: ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) أي: وذلك الذي أمروا به سواء على لسان أنبيائهم وفي كتبهم، أو على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) أي: الكتب القيمة، وهناك اختلاف بين العلماء في المقصود بدين القيمة، ولكن قبل أن نبين ذلك ننقل قول ابن كثير رحمه الله تعالى، قال: استدل كثير من الأئمة كـ الزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان، ولهذا قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:٥].

أقول: يشيع الاستدلال بهذه الآية: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) في كل أبواب العبادات على الإخلاص، وأن أي عبادة يشترط فيها النية، فالنية ركن أساسي في الصلاة، والنية ركن في الحج، والزكاة لابد فيها من النية، والصيام لابد فيه من النية، فلو أن رجلاً أخرج في آخر السنة مالاً ولم ينو أنه زكاة ماله فلا تسقط عنه فيها الزكاة.

ولو أن شخصاً كان جنباً فانغمس في البحر وخرج، أو اغتسل بسبب حرارة الجو، فلا يرفع ذلك جنابته، لأنه لم ينو رفع الحدث الأكبر، إذن: فالنية ركن متين في العبادات، وهذا موضوع كبير ومهم، لكن هذه إشارة تابعة، فهذه الآية دائماً نجدها في كل باب من أبواب الفقه عند بيان ركنية النية، فهي تميز العادة من العبادة، فلو رجلاً جلس في المسجد عشرة أيام متواصلة ولم يغادره، ولم ينو الاعتكاف، وآخر يعمل نفس العمل لكنه نوى الاعتكاف، فالأول لا يكتب له أجر الاعتكاف، والآخر يكتب، والمفرق بينهما هي النية.

فالنية لها شأن خطير جداً في الشرائع الإسلامية، وهي أيضاً تميز العبادات عن بعضها، فتميّز بين النفل وبين الفرض، فقد تشتبه صورة الصلاة في النفل والفريضة، ثم تأتي النية فتميز وتفرق بينهما.

قوله تعالى: ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) (وذلك) أي: الذي أمروا به، (دين القيمة) أي: دين الكتب القيمة، أو وذلك دين الأمة القيمة الوسط، وهي أمة الإسلام، فتكون لفظة (القيمة) صفة لمحذوف.

ومعنى الآية: إن أهل الكتاب قد افترقوا، ولعنت كل فرقة أختها، وكانت فرقهم في العقائد والأحكام وفروع الشريعة، مع أنهم لم يؤمروا، ولم توضع لهم تلك الأحكام إلا لأجل أن يعبدوا الله، ويخلصوا له عقائدهم وأعمالهم، فلا يأخذونها إلا عنه مباشرة، ولا يقلدون أهل الضلال من الأمم الأخرى، وأن يخشعوا لله في صلاتهم، وأن يَصِلوا عباد الله بوفائهم، فإذا كان هذا هو الأصل الذي يُرجع إليه في الأوامر فما كان عليهم إلا أن يجعلوه نصب أعينهم، فيُردّ إليه كل ما يعرض لهم من المسائل، ويحل به كل ما يعترض أمامهم من المشاكل.

ومتى تحتم الإخلاص في الأنفس تخلق الإنصاف عليها فكانت فيها الرحمة، ولم تطرق طرقها الفرقة، وهذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب، فما نقول في حالنا؟! أفما ينعاه كتابنا الشهيد علينا بسوء أعمالنا في افتراقنا في الدين، وأن صرنا فيه شيعاً، وملأناه محدثات وبدعاً؟! من خلال ما تقدم عرفت أن الذين كفروا هم الذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عند دعوته إلى قبول ما جاء به، وأن (مِن) في قوله تعالى: ((مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) للتبعيض؛ لأن منهم من آمن ومنهم من كفر، وهذا كلام القاسمي رحمه الله تعالى.

فالمقصود: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) في قول أنها ماذا؟ من للتبعيض يعني: لأن في طائفة أخرى أسلمت واضح؟ وأن معنى (لم يكن منفكين) أي: لم يكن وجه الحق ينكشف لهم فيقع الزلزال في عقائدهم فينفك عن الرهبة المحضة التي كانوا فيها حتى تأتيهم البينة.