للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير القاسمي لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين)]

قال القاسمي: لما بين الله تعالى دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً أخبر بعد ذلك بأنه لم يبق مع إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر، والإكراه لا يتنافى مع كون الدنيا دار ابتلاء.

وبعض الناس ينخرفون في فهم آيات الله، ويخدعون الناس بأن الإسلام يقدس حرية الرأي، بمعنى: حرية الكفر! ويقولون: إن الله سبحانه وتعالى قال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩]، فيظنون أنها على التخيير، يعني: أنت حر، اكفر أو آمن؟! فهذه حرية شخصية! ليس هذا هو المقصود؛ لأن هذا فيه إبطال وإفساد لمعاني كلام الله، وإنما المقصود بهذا التهديد، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:٤٠]، والدليل أنه قبل هذه الآية مباشرة قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:٢٩]، فلا يوجد تخيير بين الحق والباطل، وللأسف أن كبار الخطباء استدل على تقديس حرية الرأي في الإسلام بما وقع بين الله سبحانه وتعالى وبين إبليس، ويقولون: حتى إبليس قد أعطاه الله حرية الرأي!! وهذا في الحقيقة إفساد لمعاني القرآن، وهذا تأثر ذميم بهذه الأفكار الإلحادية التي تشيع الآن بين المسلمين في زمن الغربة، ولا ينجو منها إلا من أراد الله سلامته من هذه الفتن التي تحيط بنا من كل جانب، إلى هذا الحد يستدل على حرية الرأي بأن إبليس ترك الله له حرية الرأي ليعبر عما في نفسه! وهذه الآية: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} انظر إلى قوله بعدها: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٢٩]؛ كذلك: ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)) [فصلت:٤٠] أي: فسوف تحاسبون.

هذا المقصود، وليس معناها: التخيير والإباحة، وإلا كان هذا تحطيماً لدين الإسلام كله، لأنه يدخل في: (اعملوا ما شئتم): عبادة الأصنام، وشرب الخمر والفواحش وغير ذلك، وليس هناك قول يفسد الإسلام أكثر من هذا التأويل القبيح.

فليعلم من هذه الآية أن سيف الجهاد المشروع في الإسلام والذي لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر لم يستعمل للإكراه على الدخول في الدين، وإنما لحماية الدعوة إلى الدين، والإذعان لسلطانه، والحكم بالعدل، فحكمة الجهاد إزالة الحواجز التي تعيق وصول الدعوة إلى عباد الله لإنقاذهم من النار، فهذا الذي فعله الصحابة رضي الله تعالى عنهم وجزاهم عنا خيراً، فهم فتحوا البلاد، وتركوا الأوطان، وأنفقوا الأموال، وبذلوا النفس والنفيس، وأراقوا الدماء من أجل أن ينقذوا البشرية من الخلود في نار جهنم بالكفر -والعياذ بالله-؛ وذلك بالدخول في دين الإسلام، ويكفي أن هناك أصقاعاً وبلاداً ممتدة من أطراف الأرض كشرق آسيا كلها من الهند إلى الفلبين والصين ما فتحت بسيف واحد، وإنما فتحت بأناس انتدبوا أنفسهم للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فكانوا يتقمصون أزياء التجار -كما يقول أحد الكتاب الأوروبيين- ويتاجرون ويتجهون إلى شرق آسيا، وكان الواحد منهم داعية في لباس تاجر، ليس هدفه التجارة؛ لكن الدعوة، فكان المسلم إذا نزل بلداً من البلدان يجتمع إليه الناس من حسن خلقه، ولما يستمعون من دعوته إلى التوحيد، وإصابة الحجج والبراهين وإبطال عبادة غير الله سبحانه وتعالى، وكانوا بخلقهم وحسن مسلكهم أعظم سفراء للإسلام، وعلى أيديهم أسلمت أمم كاملة، فأغلب هذه البلاد ما استعمل السيف فيها أبداً، مثل إندونيسيا والفلبين والصين وغيرها من البلاد التي فيها ملايين المسلمين كماليزيا، وغيرها أيضاً ما دخلها الإسلام بالسيف أبداً، إنما بالخلق الحسن وبالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

المقصود من الجهاد هو إزالة الجيوش التي تقف عقبة في سبيل إيصال الحق إلى عباد الله عز وجل، فإذا زالت هذه العقبة فحينئذٍ يتعاملون مباشرة مع الشعوب، لماذا؟ لأن سنة الله سبحانه وتعالى التي ذكرها في القرآن الكريم لا تتخلف، وسنة الله أن الباطل خبيث ونجس لا يتغير ولا يتطهر أبداً شيء ثبت فيه، وهذه القاعدة التي أشير إليها هي قوله تبارك وتعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:٨]، فالباطل لا يعرف عهوداً ولا مواثيق ولا قوانين، ولا أخلاق ولا أعراف ولا دين، ولا حقوق إنسان ولا أي شيء، وفي الغرب عندهم مثل مشهور يقولون فيه: القوة هي الحق، لا يوجد شيء اسمه حق، لكن متى كانت معك العضلات والقوة فهذا هو الحق، افرض على الناس عقيدتك وباطلك وفسادك ما دامت القوة معك! فهذا المبدأ هو الذي عليه الكفار في كل بقاع الأرض وذيولهم وأحذيتهم، {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:٨]، ولا يستحيون، ولا يوجد عندهم أدنى قدر من الاستحياء حتى فيمن يحملوا أسماء المسلمين من هؤلاء الأنذال الذين يفنون أعمارهم ويوقفون حياتهم في الصد عن سبيل الله، وإعلان الحرب على الله ورسوله وعباد الله المؤمنين، وفتنتهم في دينهم، لعنهم الله وأخزاهم وقصم ظهورهم! فالمقصود: ما أكره أحد على الدخول في دين الإسلام أبداً، لكن من دخل في الدين فإنه يكره على احترامه؛ لأن هذه شريعته وهذا نظامه.

قوله تعالى: ((فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ)) أي: بالشيطان وبما يدعو إليه من عبادة الأوثان.

((وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ)) وحده، ((فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى))، والعروة الوثقى أحد أسماء كلمة النجاة كلمة الشهادة لا إله إلا الله، ولذلك يقول هنا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:٢٥٦] أي: فقد تمسك من الدين بأقوى سبب، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصل؛ فهي في نفسها محكمة، مبرمة قوية، ورأسها قوي شديد.

روى الشيخان عن عبد الله بن سلام قال: رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت كأني في روضة خضراء، وسطها عمود حديد، أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: اصعد عليه، فقلت: لا أستطيع، فجاءني منصف -أي: وصيف- فرفع ثيابي من خلفي فقال: اصعد، فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال: استمسك بالعروة، واستيقظت وإنها لفي يدي، وعبد الله بن سلام كان من كبار أحبار اليهود، استيقظ وهو يمسك هذه العروة في يده، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه فقال: (أما الروضة فروضة الإسلام، وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فهي العروة الوثقى، وأنت على الإسلام حتى تموت).

{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٥٦]، هذا اعتراض تذليلي حامل على الإيمان، رادع عن الكفر والنفاق؛ لما فيه من الوعد والوعيد.