للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً)

{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:١٥٤].

(أمنة) أي: أمناً.

بعد نزول المسيح عليه السلام يقول عليه الصلاة والسلام: (وتقع الأمنة على الأرض) أي: الأمن (حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم).

وهناك آية أخرى في القرآن استعملت فيها كلمة: (أمنة) في سورة الأنفال: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:١١].

فـ (نعاساً) بدل من أمنة، أي: نوماً، {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}، (يغشى) أو (تغشى) بالياء والتاء.

(طائفة منكم) وهم المؤمنون، فكانوا يميلون تحت الحجف، وهي: التروس من الجلد، وتسقط السيوف منهم، فهذه من رحمة الله تبارك وتعالى بالمؤمنين أنه أنزل عليهم من بعد هذا الغم الذي وقع بهم (أمنة نعاساً).

روى البخاري في التفسير عن أنس عن أبي طلحة رضي الله تعالى عنه قال: (غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه).

ويقول أبو طلحة: (رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت حجفته من النعاس، فذلك قوله تعالى: ((ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا))).

وقد ساق الرازي لذلك النعاس فوائد: منها: أن المشركين كانوا في غاية الحرص على قتل الصحابة في ذلك الموقف ثأراً ليوم بدر، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم، ولا شك أن هذه رحمة من الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي يحفظهم ويعصمهم من القتل، وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم، ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تبارك وتعالى.

ثم أخبر عز وجل أن من لم يصبه ذلك النعاس فهو ممن أهمته نجاة وسلامة نفسه، لا هم الدين ولا النبي ولا الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولذلك قال: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي: ما بهم إلا هم أنفسهم وقصد خلاصها، فهؤلاء لم ينعموا بهذا النعاس، بل بقوا في القلق والجزع والفزع والخوف.

{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} أي: غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه وتعالى {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}.

يقول السيوطي: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي: حملتهم على الهم، فلا رغبة لهم إلا نجاتها دون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلم يناموا، وهم المنافقون.

{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} يظنون بالله ظناً غير الظن الحق.

{ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} أي: كظن الجاهلية، حيث اعتقدوا أن النبي قتل أو لا ينصر.

في الحقيقة هنا بحث طويل جداً للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى يشرح فيه ما المقصود بظن الجاهلية، ونحن نحاول اختصاره بقدر المستطاع، يقول رحمه الله تعالى: وهكذا اعتقد هؤلاء أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفاصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة، وإذا وقع بلاء بالمسلمين ظنوا أن المسلمين سيستأصلون، وأنه لن تقوم لهم راية.

فهذا ظن الجاهلية، فلنحذر هذا الظن في هذا الزمان الذي صار فيه الدين غريباً، والله سبحانه وتعالى وحده المستعان، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحبط كيد أعداء هذا الدين، وهناك حرب لا تقوى الكلمات على وصفها مثل: العلمنة بالإكراه، وكذلك ما نشر في بعض الجرائد أن هناك تعميمات بتطهير المكتبات المدرسية من الكتب الدينية، خاصة كتب العقيدة والحديث، لم يصبح الأمر تطرفاً ولا إرهاباً، فقد نسوا هذه الكلمات وما عادوا بحاجة إلى استعمالها، فاليوم يعلن عن إعدام اثني عشر مليون كتاب إسلامي جمعت من المكتبات الإسلامية في المدارس، وهذه الكتب هي تفسير القرآن العظيم لـ ابن كثير، وكتب ابن تيمية وكتب ابن القيم وعامة علماء المسلمين، حتى كتب عبد الحليم محمود والشيخ كشك وغيرهم من المعاصرين.

وتقول التقارير: إنه يجري تتبع أي كتاب فيه شائبة دينية، على حسب زعمهم، فهل يظن هؤلاء أن الأمر سيظل بهذه الصورة؟ ألا نخشى أن يقع بنا ما وقع بشعب الصومال حينما قام الملحد المرتد سياد بري وأنكر آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، فثار العلماء رحمهم الله تعالى في وجهه، فأحرق العلماء وهم أحياء في المدينة العامة وقتلهم، فما تحركت شعرة إلا ما شاء الله، وسكت الناس على هذا، ومرت السنون وابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالأمراض، وابتلاهم بالمجاعات، وابتلاهم بالاحتلال الخارجي، وابتلاهم بالحروب الداخلية والقلاقل، فحرب الله عز وجل شؤم، فإحراق اثني عشر مليون كتاب إسلامي وإعدامها واستبدالها بكتب المواجهة والتنوير أمر ليس بالهين.