للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء)]

قال عز وجل: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:١٨١].

لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:٢٤٥]، قالت اليهود: يا محمد! افتقر ربك فسأل عباده القرض، فأنزل الله (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) الآية.

وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس أيضاً قال: (دخل أبو بكر الصديق بيت المدراس -بيت العبادات عند اليهود- فوجد من يهود ناساً كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له: فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر يقال له: أشيع، فقال له أبو بكر: ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول من عند الله، قد جاءكم بالحق من عنده تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقره، وإنه إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر رضي الله عنه فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله، فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين.

فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أبصر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر؟! فقال: يا رسول الله! إن عدو الله قال قولاً عظيماً، يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربت وجهه، فجحد فنحاص ذلك، وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله عز وجل فيما قال فنحاص: ((لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ))).

ولما كان مثل هذا القول لا يصدر إلا عن تمرد عظيم لكونه في غاية الشناعة أشار إلى وعيده الشديد فقال تعالى: ((سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) أي: ما قالوه مع هذه العظيمة الشنعاء، في صحائف الحفظة.

(وقتلهم الأنبياء) أي: سنكتب أيضاً قتلهم الأنبياء بغير حق، وإنما ضمه مع ما قبله إيذاناً بسوابقهم القبيحة، فلذلك ربط الله سبحانه وتعالى هذا القول الشنيع بجرائم آبائهم، ونسبها إليهم مع أنهم ليسوا هم الذين قتلوا الأنبياء اليهود في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا راضين بذلك، بل هم سعوا في قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فليس قولهم: ((إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)) بأول جريمة يرتكبونها، ومعلوم أن من اجترأ على قتل الأنبياء لا يستبعد منه أن يقول هذا الكلام.

((وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)).