للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى)]

يقول تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} [النساء:٣] (خفتم) بمعنى علمتم.

وقال بعض العلماء: الخوف هنا معناه: الخشية.

وإليك شاهد لغوي للمعنى الأول الذي هو بمعنى العلم، يقول أبو محجن الثقفي: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة يروي عظامي في الممات عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها فقوله: (أخاف) أي: أعلم.

وهذا الشاهد اللغوي موجود في أضواء البيان.

{أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:٣] المقصود باليتامى هنا: يتامى النساء.

قال الزمخشري ويقال للإناث: اليتامى كما يقال للذكور، وهو جمع يتيمة على القلب، كما قيل: (أيامى) والأصل (أيائم) ويتائم.

فحصل قلب فصارت يتامى.

{فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:٣] أي: من طبن لنفوسكم من جهة الجمال والحسن والعقل والصلاح منهن.

((مَا طَابَ لَكُمْ))، عبر هنا بـ (ما) التي هي لغير العاقل؛ لأنه يجوز التعبير بـ (ما) عن العاقل إذا أريد بها الصفة، تقول: ما زيد؟ يعني: هل هو رجل فاضل؟ هل هو رجل كريم أم بخيل؟ فإذا كان الكلام لبيان الصفة، فيجوز استعمال (ما) للعاقل كما في قوله: (فانكحوا ما طاب لكم) المقصود هنا أن (ما) صفة.

هذه الآية دليل على أنه يجوز للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته، إذ كانت هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى تطيب له إذا رآها.

كذلك يستفاد هذا المعنى من آية أخرى في القرآن الكريم وهي قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:٥٢]، وهذا لا يكون إلا بعد النظر.

وهناك إشارة ضمنية في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:٣٠] (من) هنا تبعيضية؛ لأن هناك بعض الحالات يجوز فيها إطلاق البصر كحالة إرادة الزواج.

{فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:٣] أي: إن خفتم يا أولياء اليتامى ألا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن بإساءة العشرة أو بنقص الصداق، فانكحوا غيرهن من الغريبات، فإنهن كثيرات، ولم يضيق الله عليكم.

هذه الآية جاءت للتحذير من التورط في الجور عليهن، والأمر هنا في قوله: ((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)) سوى اليتامى.

((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ)) أي: اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، ففي غير يتامى النساء متسع إلى الأربع.

روى البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عذق -يعني: نخلة- وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:٣]، أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله).

وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها: (هي اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثلما يعطيها غيره، فنهو عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن).

قال عروة: قالت عائشة: (وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال قالت عائشة: فنهو أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كنّ قليلات المال والجمال).

روى أبو داود رحمه الله تعالى عن ربيعة في قوله تعالى: ((وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا) قال: أي اتركوهن إن خفتم ألا تقسطوا فقد أحللت لكم أربعاً.

قوله تعالى: (ما طاب لكم) (ما) موصولة، وجاء بـ (ما) مكان (من)؛ لأنهما قد يتعاقبان فيقع كل واحد منهما مكان الآخر، يعني: أحياناً قد يعبر عن العاقل بـ (ما) كما يعبر عنه بـ (من) كما في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:٥]، والمعنى: (ومن بناها) وقوله تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:٣]، وقال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور:٤٥] هنا التعبير عن غير العاقل، لكن عبر عنه بـ (من) لأنهما يتعاقبان.

قال بعضهم: وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء وهن ناقصات العقول.

إن في إيثار الأمر بنكاح غير اليتامى من النساء عن نكاح اليتامى مزيد لطف في استنزالهم لذلك؛ لأن الآية لو قالت: (لا تنكحوا اليتامى) كان فيها نهي، فالنفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه.

ولذلك فهذه الآية قد حفت بالمرغبات لهن في غير اليتامى، حيث وصف النساء عدا اليتامى بقوله: (ما طاب) وهذا كما قلنا: فيه نوع من الحث والترغيب والاستمالة بعيداً عن اليتامى؛ حتى لا تظلمونهن.

اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له، بمعنى أنه يجوز لمن لم يخف عدم القسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة.