للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكمة من تحريم قتل النفس]

من رحمة الله بنا أنه حرم علينا أيضاً أن نقتل أنفسنا، ليس فقط أن نقتل غيرنا، لكن أن نقتل أنفسنا، هذه من رحمة الله عز وجل؛ لأن نفسك ليست ملكاً لك مطلقاً، بل هي لله تعالى، فلا تتصرف فيها إلا بما أذن لك فيه.

والله حرم علينا الانتحار، والإنسان قد نهي عن تمني الموت كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)، حتى إنه ذكر من أشراط الساعة: (أن يمر الرجل على قبر الرجل يتمرغ عليه، ويقول: يا ليتني مكانه، ما به الدين إلا البلاء)، يعني: يكثر عليه البلاء والفتن ويتمنى الموت، ليس من باب أنه يخاف على دينه من الفتن، لكن ليس بقادر على أن يصبر على البلاء، وهذه من أشراط الساعة إلا أنها سيقت في سياق الذم، فهذا ذم لمجرد أنه يتمرغ على القبر ويتمنى الموت، فكيف بمن يقتل نفسه بالفعل؟! لا شك أنه يكون أشد، فهذا الإنسان الذي يقدم على الانتحار والعياذ بالله هو يريد التخلص من ألم سببه بلاء وقع عليه في الغالب، ولا شك أن هذا الإنسان لو كان عنده يقين وإيمان لا يمكن أبداً أن يقدم على هذا الفعل الشنيع؛ لأنه يتصور أنه نتيجة البلاء الذي وقع فيه يريد أن يستريح من البلاء فيقتل نفسه، لو أن عنده إيماناً بالغيب ويعرف هذه الأحاديث وهذه النصوص لأدرك أنه ينتقل من بلاء إلى بلاء أشد منه أضعافاً مضاعفة.

كل بلاء في الدنيا يعوضه الله، إذا كان فقد ولداً أو عزيزاً عليه، فيمكن أن يخلف الله سبحانه وتعالى غيره من الأولاد، وإذا كان عليه دين -وكثير من الناس ينتحرون بسبب الدين- وليس عنده من الأموال ما يفي بهذا الدين، والمال غاد ورائح، والله سبحانه وتعالى أوجد مخارج كثيرة، منها: أنه حض صاحب المال بقوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:٢٨٠]، يؤجله إلى ميسرة، ويجتهد هو في السعي والكسب، ولو بدأ من الصفر حتى يرزقه الله سبحانه وتعالى ويؤدي عنه دينه، حتى لو مات مديوناً فهو أخف من أن يموت قاتلاً لنفسه، ونحن هنا لا نتكلم في الذي يموت لأن مطربه المحبوب مات، أو لأن فريقه خسر فهؤلاء السفهاء ما لنا بهم شأن، يعني: هؤلاء لا يدرجون في العقلاء، لأنهم لا عقول لهم.

ومن المعلوم أنه إلى عهد قريب ما كانت تعرف مشكلة الانتحار إلا القليل النادر، يعني: لم تكن تلفت النظر، وما زالت -ولله الحمد- البلاد الإسلامية عموماً سليمة من هذه المشكلة، وذلك حينما يطالع الإنسان بعض البحوث الطبية في بعض المراجع التي كتبها الكفار، وجهات رسمية معتمدة سواء منظمة الصحة العالمية وغيرها، حين يطالعها يشعر أنهم يحسدوننا على ما آتانا الله من فضله، ويحسدوننا على نعمة الإسلام، قرأت إحصائيتين عن انتشار مرض الإيدز في أوروبا، ووحدت فيها أن المعدلات في الإصابات تصل إلى حوالي عشرة ملايين والعياذ بالله، بينما تكاد تجد البلاد الإسلامية خالية من هذا المرض، حتى إن منظمة الصحة العالمية في تقريرها تطالب للحد من مرض الإيدز بتدعيم التوجيه الديني الإسلامي؛ لأنه من أعظم طرق الوقاية والحماية من هذا المرض الخطير، ولأن القيم الإسلامية هي التي عصمت منطقة الشرق الأوسط كلها من هذا الشر، ومنطقة الشرق الأوسط المقصود بها البلاد الإسلامية، فقد أثبتت الإحصائيات أن عدد الحالات في شمال أفريقيا مائة ألف حالة، وهذا العدد يعتبر قليلاً جداً، وقالوا: إن جميع هذه الحالات إنما كانت بسبب نقل الدم، وبسبب الوافدين الذين يأتون من بلاد الغرب وينشرون هذا المرض الخبيث، ولكن هذا بلا شك إنما يعزى لفضل الله سبحانه وتعالى علينا والتقيد بالإسلام، مع أننا غير ملتزمين بالإسلام كما يرضي الله، ومع ذلك فقد حفظنا الإسلام وعصمنا من هذه الشرور، وانظر إلى كلامهم أيضاً عن البلاد الإسلامية فيما يتعلق بالكحولات، فهم قد أعيتهم الحيلة ولم يجدوا أي طريقة لزجر الناس عن الكحول وبيان أخطارها، بينما في البلاد الإسلامية بفضل الله مهما وجد المنحرفون والفاسدون بيننا، لكن الغالب الأعم أننا في عافية من بلاء الخمر والكحول، أما في الغرب حتى الأطفال ينتحرون.

فهم في أمور كثيرة جداً في الحقيقة ينظرون إلينا بنوع من الحسد، ومع ذلك فهم يكرهون على الاعتراف بفضل الإسلام في حماية المسلمين من هذه الشرور.

بالنسبة للانتحار فإنك تجد أنه كلما ارتقت المجتمعات بمستوى الرخاء المادي والعلمي كلما ازدادت نسب الانتحار، فتجد أن أعلى بلاد العالم في الدخل التي هي السويد، معدل الانتحار فيها معدل كبير جداً، أما في بلاد المسلمين فهو شيء نادر بالنسبة لغير البلاد الإسلامية، وهذه من نعمة الله ومن فضائل الإسلام، وفضائل وبركات هذه الملة الحنيفية.

وما وجد هذا الداء إلا بعد أن تسربت المفاهيم الغربية في المجتمعات الإسلامية، وبدأ يظهر ضعف الإيمان، وضعف اليقين في الناس، وبالتالي بدأنا نسمع عن هذه الحالات، فهؤلاء يكفرون بنعمة الحياة، ومهما تعلل المنتحر بالأعذار فهو لا يعذر في قتل نفسه، ولن تشفع له، ولن تدفع عنه نقمة الله، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.

لو أن شخصاً رسب في الامتحان، فإعادته للسنة أهون من أن يقتل نفسه فيصير إلى عذاب دائم، يعني: بهذه الصورة إن هو قتل نفسه فهذا ما عنده يقين، هل هذا عنده إيمان أو يقين؟! هو ما نظر للمصيبة التي تعود عليه في دينه بأن يعذب في قبره ويعذب بالنار يوم القيامة، وأن ما خسره في الدنيا فإنه يمكن تعويضه والتراجع عنه.

ويعلم أن هذا البلاء لا يدفع إلا بمشيئة الله، واحد يغلب في مباراة أو في سباق أو واحد كما ذكرنا مات عزيز عليه أو أثقلته الديون، فضلاً عمن ذكرنا ممن يقتل نفسه؛ لأن الزعيم صاحبه مات، أو الذي يحبه أو المطرب أو المغنية أو غير ذلك من هذه الأشياء، أو قد لا يجد ما يقتات به فينتحر، فالإيمان هو الذي يحجز المؤمنين عن مثل هذه الأفعال الشنيعة؛ لأن المؤمن يصبر على قضاء الله عز وجل وقدره، يقول عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره له كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن!).

نجد أيضاً الأمراض النفسية الفضيعة، معدلها في بلاد المسلمين قليل جداً بالنسبة لما هي عليه في بلاد الكفار، فهذا لا شك مما يجعلنا نتمسك بما تبقى لدينا من الإسلام وبحبل الله، مع أننا لسنا على الطريقة المرجوة.

يقول الشافعي رحمه الله تعالى: فلا حزن يدوم ولا سرور ولا بأس عليك ولا رخاء فلا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء ويقول آخر: طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار فالدنيا دار ابتلاء، لابد من الصبر فيها مهما تنوع البلاء، المهم أن لا يكون البلاء في الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا)، إذا كانت المصيبة في غير الدين فلا تجزع؛ لأن الدنيا تعوض.

من كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعت من عوض سئل شيخ الإسلام عن رجل له مملوك هرب ثم رجع، فلما رجع أخذ سكينه وقتل نفسه، فهل يأثم سيده؟ يأثم على قتل نفسه فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: الحمد لله، لم يكن له أن يقتل نفسه، وإن كان سيده قد ظلمه واعتدى عليه، بل كان عليه إذا لم يمكنه رفع الظلم عن نفسه أن يصبر إلى أن يفرج الله، فإن كان سيده ظلمه حتى فعل ذلك، مثل أن يقتر عليه في النفقة، أو يعتدي عليه في الاستعمال، أو يضر به، أو يضره بغير حق، أو يريد به فاحشة ونحو ذلك فإن على سيده من الوزر بقدر ما نسب إليه من المعصية، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم على من قتل نفسه، فقال لأصحابه: (صلوا عليه)، فيجوز لعموم الناس أن يصلوا عليه، وأما أئمة الدين الذين يقتدى بهم، فإذا تركوا الصلاة عليه زجراً لغيره اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فهذا حق، والله تعالى أعلم.

إذاً المنتحر لا يصلي عليه من يقتدى به من العلماء وغير ذلك، لا يصلى عليه حتى ينزجر أمثاله من الناس وحتى يعرفوا أن هذه عقوبة من يفعل ذلك، لكن يترك عموم الناس يصلون عليه لبقائه في دائرة الإسلام حتى لو أتى بهذه الكبيرة، وهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهذا ما تيسر في تفسير قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:٢٩ - ٣٠].