للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله)]

قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:٩٤].

في الآيات السابقة بين الله تبارك وتعالى كفارة القتل الخطأ، ثم بين حكم القتل العمد، ثم هنا يحذر تبارك وتعالى عما يؤدي إلى القتل العمد، فإذا كانت الآية الكريمة قد تناولت القتل العمد، فهنا بيان لأمر يؤدي إلى القتل العمد، وهو عدم الاكتراث وقلة المبالاة وعدم التحرز في الأمور التي تؤدي إلى وقوع هذا القتل العمد.

((يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم)) يعني: إذا ذهبتم.

((في سبيل الله)) يعني: مجاهدين في سبيل الله إلى أرض العدو.

((فتبينوا)) يعني: اطلبوا بيان كل ما تأتون وما تذرون، ولا تعجلوا فيه بغير تدبر ولا روية.

((ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً)) نهي عما هو نتيجة لترك المأمور به، وتعيين لمادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبين، فبعدما حثنا الله عز وجل على التبين والتثبت وعدم التعجل في الأمور، عين مادة مهمة وموضعاً مهماً من المواضع التي يتأكد فيها التبين والتثبت والاهتمام، وهي: ((وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)) يعني: لا تقولوا لمن أظهر الانقياد لدعوتكم وقال: لا إله إلا الله، أو سلم عليكم فحياكم بتحية الإسلام: لست مؤمناً في الباطن، وإنا لن نقبل ظاهرك؛ لأن باطنك يخالفه، وإنما قلت ذلك باللسان لتطلب الأمان من القتل فقط.

فيقول الله تبارك وتعالى: من انقاد لدعوتكم وأعلن ذلك بقوله: لا إله إلا الله، أو قال لكم: السلام عليكم، لا تقولوا له: لست مؤمناً في الباطن، وإن أظهرت لنا هذا في الظاهر لتتقي به أو لتطلب الأمان، بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه، يعني: إذا كنت ترى المسلم يقاتل الكفار وظل يطارد رجلاً من الكفار ثم في النهاية حصره المسلم في مكان ورفع السيف ليقتله فقال الكافر: لا إله إلا الله، في هذه الحالة يجب عليه أن يكف عن قتله، حتى لو كان الظاهر أنه إنما قال ذلك ليلوذ بالكلمة ليحقن بها دمه، ما دام قالها فيجب الكف عن قتله.

((تبتغون عرض الحياة الدنيا)) يعني: تطلبون بقتله عرض الحياة الدنيا كالمال الذي معه كغنيمة، وهذا العرض من أعراض الحياة الدنيا هو سريع النفاد وجملة ((تبتغون)) حال من فاعل ((لا تقولوا)) فهي منبئة عما يحملهم على العجلة وترك التأني، ((تبتغون)) يعني: والحال أنكم تبتغون عرض الحياة الدنيا.

((فعند الله مغانم كثيرة)) تعليل للنهي عن أخذ ماله لما فيه من الوعد الضمني يعني: كأنه قيل: لا تبتغوا ماله فعند الله مغانم كثيرة يغنمكموها ويغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه.

((كذلك كنتم من قبل)) هذا تعليل للنهي عن القول المذكور، فيعلل الله سبحانه وتعالى هذا النهي الذي أتى في هذه الآية عن أن نقول للرجل الذي يظهر الإسلام أو شعيرة من شعائر الإسلام: لست مؤمناً، يقول تعالى: ((كذلك)) يعني: لا تقتلوه ولا تتعرضوا له بل اقبلوا ظاهره وكلوا سريرته إلى الله؛ فإنكم كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم.

((فتبينوا)) أي: كنتم مثل هذا الرجل الذي ألقى إليكم السلام في أول إسلامكم، ولا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من تحية الإسلام ونحوها.

((فمن الله عليكم)) بأن قبل منكم تلك المرتبة، وعصم بها دماءكم وأموالكم، ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم.

والفاء في قوله: ((فتبينوا)) فصيحة، يعني: إذا كان الأمر كذلك فاطلبوا بيان هذا الأمر البين وقيسوا حاله بحالكم، فهذه المرحلة أنتم أنفسكم مررتم بها من قبل، وما كان يظهر منكم إلا مثلما ظهر من هذا الرجل من شعائر الإسلام، فقيسوا حاله بحالكم، وافعلوا به ما فُعِلَ بكم في أوائل أموركم، من قبول ظاهر الحال، من غير وقوف على الباطن، فنحن البشر حينما يتعامل بعضنا مع بعض إنما نقف عند حد الظاهر، أما البواطن وما في القلوب فهذا ما لا سبيل إلى الاطلاع عليه.

كل أحكام الدنيا إنما تبنى على ما يظهره الناس بعضهم لبعض، أما تواطؤ الظاهر والباطن فهذا لا يطلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى.

((إن الله كان بما تعملون خبيراً)) يعني: فلا تتهاونوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.