للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر)]

نعود إلى بعض هذه الآيات لنتناولها بالتفصيل.

قوله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ)) هذا نهي (لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) أي: في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة الكافرين.

(من الذين قالوا آمنا بأفواههم) أي: بألسنتهم.

(ولم تؤمن قلوبهم) وهم المنافقون، أي: لا تبال بهم؛ فإني ناصرك عليهم.

(ومن الذين هادوا) وهم بنو قريظة كعب بن الأشرف وأصحابه.

(سماعون للكذب) يعني: هم سماعون للكذب.

وهذا يدل على أن سامع المحظور كقائله في الإثم، وأن الشخص الذي ينصت ويصغي بسمعه إلى الكلام المحرم يكون شريكاً للقائل في الإثم.

وهذا الأمر يحصل فيه تساهل كثير جداً في مجتمعاتنا، فترى الإنسان يسمع دون أن ينكر ما يسمعه من الغيبة أو من الكلام المحرم، بل يجب على الإنسان أن يزيل هذا المنكر أو يزول عنه، لكن أن يبقى مستمعاً ومنصتاً ويظن أنه ناج من الإثم لأنه لا يتكلم غير صحيح، فهو يدخل في هذه الآية (سماعون للكذب)، فسامع المحظور كقائله في الإثم.

كما يقول الشاعر: وسمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه قوله تعالى: (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) أي: لم يحضروا مجلسك، وتجافوا عنك إسرافاً في البغضاء، أي: قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون على أن ينظروا إليك، قيل: هم يهود خيبر، والسماعون بنو قريظة.

(يحرفون الكلم) أي: كلم التوراة في الأحكام.

(من بعد مواضعه) أي: التي وضعه الله عليها، فيتناولونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.

(يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا) يعني: إن أوتيتم هذا المحرف المزال عن مواضعه من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام (فخذوه) يعني: اقبلوه، أو اعملوا به فإنه الحق (وإن لم تؤتوه) بأن أفتاكم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخلافه (فاحذروا) أي: من قبوله، وإياكم أن تأخذوه؛ فإنه الباطل والضلال.

قال ابن كثير: قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلا، وقالوا: تعالوا نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه.

والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم وإركاب الزانيين على حمار مقلوبين.

فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بذلك.

وقد وردت الأحاديث بذلك، فروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: (إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون.

فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم.

فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: - عبد الله بن سلام وكان أكبر علمائهم وأفضلهم وسيدهم قبل أن يسلم- ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم.

فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فقال عبد الله بن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة) أخرجاه، وهذا لفظ البخاري، وفي رواية الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: (مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقالوا: نعم.

فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم! إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه.

قال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)) إلى قوله: ((يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ))) أي: يقولون: ائتوا محمداً، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه واقبلوا الحكم، وإن أفتاكم بالرجم فلا تأخذوه.

أخرجه مسلم دون البخاري.

يقول تعالى: (ومن يرد الله فتنته) أي: ضلالته (فلن تملك له من الله شيئاً) أي: في دفع ضلالته.

(أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) يعني: من دنس الفتنة، ووضر الكفر؛ لانغماسهم فيها، وإصرارهم عليها، وإعراضهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية.

(لهم في الدنيا خزي) أي: فضيحة وهتك ستر، وظهور نفاقهم بالنسبة للمنافقين، وذل وخزي وافتضاح لظهور كذبهم في كتمان نص التوراة بالنسبة لليهود.

(ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وهو عذاب النار.