للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم)]

قال تبارك وتعالى: ((إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ)) المقصود من ذلك توبيخ الكفرة حيث فرطوا في حقه وأفرطوا، وليس المراد تكليف المسيح عليه السلام بالشكر في ذلك اليوم، لماذا؟ لانقطاع التكليف بالموت، والشكر عبادة تكليفية يكلف بها العبد، ويوم القيامة ليس زمن تكليف، وإنما هو وقت الجزاء، فلذلك كان: المقصود من هذا السياق توبيخ الذين فرطوا أو أفرطوا في حق المسيح عليه السلام.

قال تعالى: (إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، وفي تذكيره بهذه النعم فائدتان: الأولى: إسماع الأمم ما خصه به من الكرامة؛ لأن هذا سيكون يوم يجمع الله الرسل، فيخاطب الله عز وجل المسيح عليه السلام بعد أن يخاطب الرسل عموماً، فيقول: يا عيسى ابن مريم! اذكر نعمتي عليك إذ فعلت لك كذا وكذا وكذا، حتى تسمع الأمم ما خصه الله به من الكرامة.

الثانية: لتوكيد حجة الله على جاحده.

يقول تعالى: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم) هذا شروع في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين من المفاوضة على التفصيل بعد ذكر بيان ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال؛ لأن الإجمال هو في قوله: (ماذا أجبتم قالوا: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب)، وهنا تفصيل ما سيحصل مع المسيح عليه السلام، ليكون ذلك طريقاً وأنموذجاً لتفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص شأن عيسى عليه السلام للتفصيل من بين شئون سائر الرسل عليهم السلام مع دلالته على كمال هول ذلك اليوم، ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل، بسبب أن شأنه عليه السلام متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين ذكرت السورة الكريمة بعض جناياتهم.

كما نلاحظ في هذه السورة أنها نعت على اليهود والنصارى -الذين هم أهل كتاب- جنايتهم عموماً، وفي حق المسيح عليه السلام خصوصاً، فتفصيله أعظم عليهم، وأجلب لحسرتهم وندامتهم، وآكد في صرفهم عن غيهم وعنادهم، فإذا سمعوا هذه الآيات في الدنيا فلعل هذا يصرفهم عن عنادهم وتماديهم في الكفران.

قوله تعالى: (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ)، أي: منتي عليك.

(وَعَلى وَالِدَتِكَ)، بما طهرها واصطفاها على نساء العالمين وأتاها برزقها من غير حول منها.

(إِذْ أَيَّدتُّكَ)، يعني: قويتك، مأخوذة من الأيد، كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:٤٧]، وقال تعالى: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:٤٥] فالأيد بمعنى القوة.

قوله تعالى: (إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، أي: بجبريل عليه السلام، لتثبيت الحجة، أو بجعل روحك طاهرة عن العلائق الظلمانية، ومن ذلك التأييد قويت نفسك الناطقة، فلذلك تكلم الناس في المهد وكهلاً، فهذا كان أثراً من آثار تأييد الله عز وجل للمسيح بروح القدس الذي هو جبريل عليه السلام.

فمن مظاهر هذا التأييد قوله تعالى: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، أي: في أضعف الأحوال وأقواها بكلام واحد من غير أن يتفاوت في حين الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد.

قال ابن كثير: أي: جعلتك نبياً داعياً إلى الله في صغرك وكبرك، فأنطقتك في المهد صغيراً، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب، واعترفت لي بالعبودية، كما قال الله تعالى عنه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:٣٠]، وأخبرت عن رسالتي إياك، ودعوتك إلى عبادي، ولهذا قال: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)) أي: تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك؛ لأن كلامه الناس في طفولته ليس بأمر عجيب، فهذا كلام حاصل بكثير.

وقوله تعالى: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ)، أي: الخط وظاهر العلم الذي يكتب.

(وَالْحِكْمَةَ)، أي: الفهم، وباطن العلم الذي لا يكتب، فالعلم له باطن وظاهر، فالظاهر هو الحروف التي تكتب، والباطن هو الفقه ومعرفة وفهم هذا العلم، ويخص به أهله.

(وَالتَّوْرَاةَ)، التي هي منزلة على موسى الكليم عليه السلام.

(وَالإِنجِيلَ)، وهو الذي أنزل عليه، فعليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

قوله تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)، أي: تقدر، ونسبة الخلق هنا إلى المسيح ليست نسبة حقيقية بغير شك، لكن (تخلق) هنا بمعنى: تقدر وتصور منه صورة مماثلة لهيئة الطير، وقلنا: الكاف هنا تساوي كلمة (مثل) فقوله: (كهيئة الطير) يعني: مثل هيئة الطير.

وقوله: (بِإِذْنِي)، أي: بإذني لك في أن تفعل ذلك.

وقوله: (فَتَنفُخُ فِيهَا) أي: في تلك الهيئة المصورة.

وهنا وقع الضمير خلاف الآية التي في آل عمران: {فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:٤٩] فقال: (فيه)، فيمكن أن يعبر أحياناً بالهاء للطير لأنه مذكر، ويمكن أن يعبر بالمؤنث (تنفخ فيها) لأن المقصود هنا الهيئة، فالمعنى: تنفخ في هذه الهيئة المصورة.

وقوله: (فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي) أي: فتصير تلك الهيئة طيراً لحصول الروح من نفختك فيها.

وقوله: (وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي) الأكمه هو الذي يولد أعمى مطموس البصر، بخلاف الأعمى الذي يولد بصيراً ثم يطرأ عليه العمى بعد ذلك، لكن المقصود هنا (الأكمه) الذي يولد أعمى مطموس البصر.

وقوله: (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى) أي: من القبور أحياء بإذني، فهذا مما فعل الله به من جر المنافع، كل هذا امتنان على المسيح عليه السلام بما جر الله عليه من المنافع العظام.

ثم أشار إلى ما دفع عنه من المضار فقال سبحانه وتعالى: (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ)، يعني: حين هموا بقتلك، فمنعت اليهود الذين أرادوا بك السوء وسعوا في قتلك وصلبك، فنجيتك منهم، ورفعتك إلي، وطهرتك من دنسهم، وهذا ما بينه قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:١٥٧]، وقال أيضاً: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:٥٥]، وقال أيضاً: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:١٥٧ - ١٥٨].

فقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:١٥٧] هذا من الدفع الذي دفع الله به الضرر عن المسيح عليه السلام.

(وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ) أي: حين أرادوا قتلك وإضرارك، كما قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:١٥٧]، فالصلب وقع، وهناك شخص صلب، لكنه ليس هو المسيح، حيث قال تعالى: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:١٥٧]، يعني: قتلوا شبيهه عليه السلام، أما من هو هذا الشخص الذي صلب فهذه قضية أخرى.

والمشهور عند أهل الكتاب -في حادثة طويلة- يهوذا الإسخريوطي أو يهوذا الخائن على حد تعبير زعيم عربي وصف صهره الذي فر إلى الأردن بأنه يهوذا الخائن، فهذا تعبير خبيث لا ينبغي أن يمر مرور الكرام؛ لأن هذه مغازلة لعقائد النصارى؛ لأن لفظ (يهوذا الخائن) تعبير حساس جداً عند النصارى؛ إذ يعتقدون أن يهوذا الخائن هو الذي دل على المسيح وتسبب -بزعمهم- في صلبه، فهذا تعبير كنسي يغازل به أعداء الله.

فلا ينبغي أن تمرر هذه التعبيرات الخطيرة؛ لأن في معناه الاعتراف بأن يهوذا خان حقاً وتسبب في حصول الصلب -والعياذ بالله- للمسيح، فهذا كذب وافتراء بلا شك.

وقوله تعالى: (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، يعني: بالمعجزات التي توجب انقيادهم لك؛ لتعاليها عن قوى البشر فلا يتوهم فيها السحر.

وقوله: (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، أي: ما هذا الذي يرينا إلا سحر ظاهر.

وهنا

السؤال

هذا السياق هنا في تعديد نعم الله سبحانه وتعالى على عيسى عليه السلام، فإذا كان السياق سياق تعديد النعم -نعم الله على المسيح عليه السلام- فقد جاء في هذا السياق قول الكفار في حقه: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، فهذا ليس من النعم فيما يظهر، فما الحكمة في أنه جرى ذكره في سياق تعداد النعم على المسيح عليه السلام؟ والجواب أن من الأمثال المشهورة (كل ذي نعمة محسود) بل هذا حديث صحيح: (استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود)، فطعن اليهود فيه بهذا الكلام يدل على أن نعم الله تعالى في حقه كانت عظيمة؛ لأنهم ما قالوا هذا إلا حسداً للمسيح عليه السلام، ومرادنا ذكر موقف اليهود منه ومعاداتهم في سياق تعديد النعم لهذا الوجه الذي أشرنا إليه.