للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم)]

ثم قال عز وجل: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:٣٥].

قوله: (وإن كان كبر عليك)، يعني: إن كان شق وثقل عليك (إعراضهم)، يعني: عن الإيمان بما جئت به من القرآن، ونأيهم ونهيهم الناس عنه.

وقوله: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض)، يعني: إما أن تصبر ولا حيلة لك إلا الصبر، وإما أن لا تصبر ولا يوجد خيار آخر، فعليك أن تصبر وتقتدي بإخوانك المرسلين السابقين.

وقوله: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض)، أي: سرباً ومنفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تأتي لهم بآية يؤمنون بها.

قوله: (أو سلماً في السماء) أي: مصعداً تعرج به إليها.

وقوله: (فتأتيهم بآية) يعني: مما اقترحوه فافعل، وحسن حذف الجواب لعلم السامع به، فقوله: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء) جوابه: فافعل، لكن لم يجعل الله لك هذه الاستطاعة؛ إذ يقين الإيمان غير نافع؛ لأنه لو انكشفت الحجب تماماً وصار الغيب شهادة، وأتاهم بكل ما يقترحونه من المعجزات والخوارق فسينقلب الإيمان إلى إيمان قهري وضروري، وليس إيماناً اختيارياً.

ثم يقول تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى)، وهذه كلها مواساة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه شاء بمقتضى جلاله إظهار غاية قهره وغاية لطفه، (فلا تكونن)، يعني: بالحرص على إيمانهم، أو الميل إلى نزول مقترحهم، (من الجاهلين)، يعني: بما تقتضيه شئونه تعالى.

وفي هذه الآية ما لا يخفى من الدلالة على مبالغته صلى الله عليه وسلم في حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه إلى غاية أنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم وشفقة عليهم.

وهذه الآية كافلة بالرد على القدرية في زعمهم أن الله تعالى شاء جمع الناس كلهم على الهدى فلم يكن؛ لأن الله تعالى يقول: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى)، فلو حرف امتناع لامتناع، فصدر الجملة بـ (لو)، ومقتضاها امتناع جوابها لامتناع الواقع بعدها، يعني: امتنع استماعهم عن الهدى لامتناع مشيئة الله عز وجل أن يجمعهم على الهدى، وقال عز وجل هنا: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ولم يقل: فلا تكن جاهلاً، وإنما قال: (فلا تكونن من الجاهلين) يعني: من قوم ينسبون إلى الجهل، تعظيماً لنبيه صلى الله عليه وسلم حتى لا يسند الجهل إليه بالمبالغة في نفيه عنه.

وأما ما فيه من شدة الخطاب في قوله: (فلا تكونن من الجاهلين)، فسره إبعاد جنابه الكريم عن الحرص على ما لا يكون والجزع في مواطن الصبر، مما لا يليق إلا بالجاهلين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.