للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أمثلة على دلالة القرآن على حجية السنة]

ذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى ثلاثة أمثلة: المثال الأول: روي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) فسمعت ذلك امرأةً من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت! فقال: (ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟!) فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول! لأنه قال لها: ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو في كتاب الله.

وكأنه أراد أن يستفزها ليبين لها أن دليل السنة هو مثل الدليل الذي في القرآن، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول.

أي: أنها قرأت ما بين جلدتي المصحف فما وجدت فيه آية تقول: لعن الله الواشمة والمستوشمة إلى آخره، فقال لها: (لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧]؟!) فهذا مما أتانا الرسول، وهذا مما نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذه الطريقة يمكن إرجاع دليل كل قضايا الفروع وكل تفاصيل الفقه مهما كانت إلى الكتاب الكريم، وبهذا يتأيد قول من فسر قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) بأنه هو القرآن الكريم، وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.

يقول الرازي: يمكن وجدان هذا المعنى -أي: لعن من ذكرهن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك؛ لأنه تعالى قال في سورة النساء: {إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَه الله} [النساء:١١٧] فحكم على الشيطان باللعن، ثم عدد بعده قبائح أفعاله، وذكر من جملتها أنه قال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:١١٩] وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن، فيمكن استنباط نفس المعنى من هذه الآية الكريمة.

وكذلك تتمة الحديث من هذا الباب، وتتمة الحديث: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله).

المثال الثاني: ذكر أن الشافعي رحمه الله تعالى كان جالساً في المسجد الحرام، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى.

فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟ فقال: لا شيء عليه.

فقال أين هذا في كتاب الله؟ قال: قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:٧]، ثم ذكر إسناداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: للمحرم قتل الزنبور.

فانظر كيف تدرج إلى الاستنباط خلال ثلاث درجات، فقال أولاً: إن القرآن الكريم دلنا على حجية سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أتى بالحديث الذي هو قول الرسول عليه السلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، ثم أتى بسنة أحد هؤلاء الراشدين، وهو عمر رضي الله عنه، فأجابه من كتاب الله مستنبطاً بثلاث درجات.

قال الرازي: وأقول ها هنا طريق آخر أقرب منه.

أي أن الرازي يستدرك على الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فيقول: هناك طريق أخصر من الطريق الذي سلكه الشافعي.

لكن لا شك في أن طريق الشافعي مفيد في غير هذه المسألة، وإن كان هنا طريق آخر أقرب، فنحن نريد طريقة الاستنباط نفسها؛ لأن هناك مسائل أخرى قد لا نجد فيها إلا قولاً واحداً من الأئمة الراشدين المهديين الخلفاء.

يقول الرازي: أقول: هنا طريق آخر أقرب منه، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة، قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:٢٨٦] وقال: {ولا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:٣٦]، وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [البقرة:١٨٨] فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة، فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة، وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل زنبوراً شيء؛ وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة.

المثال الثالث: قال الواحدي: روي في حديث الأجير الزاني -والحديث معروف في صحيح البخاري - عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه -وكان أفقه منه- فقال أقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، قال: قل، قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا -يعني: أجيراً- فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم -يعني: قلت له: بدل أن يقام الحد على ولدي فأنا أدفع مائة شاة وخادم ولا يقام عليه الحد -ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة شاة والخادم رد -يعني: رد عليك- وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس! إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت فرجمها) وأخرجه أيضاً مسلم.

فهنا نجد أن هذا الرجل قال للنبي عليه الصلاة والسلام: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، وقال الآخر: اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله) وليس للجلد والتغريب ذكر في القرآن الكريم، وليس فيه دليل على الجمع بين الجلد والتغريب، وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله؛ لأن كلمة كتاب الله قد يعنى بها حكم الله، كما قال تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:٢٤] يعني: حكم الله عليكم.

قال الرازي: وهذا حق؛ لأنه تعالى قال {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:٤٤] يعني: السنة تبين ما نزل؛ لأن أصل الآية: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:٤٤]، فقوله: (وأنزلنا إليك الذكر) يعني السنة (لتبين للناس ما نزل إليهم) يعني القرآن، فكلاهما منزل من عند الله تبارك وتعالى، وكل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم يكون داخلاً تحت هذه الآية، وبالجملة فالقرآن الكريم كلية الشريعة، والمجموع فيه أمور كليات، والشريعة تمت بتمام نزوله، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وقد طول البحث في هذه المسألة المهمة العلامة الشاطبي في (الموافقات) في الطرف الثاني في الأدلة على التفصيل، فارجع إليه.

وقد دلت الآية على حشر الدواب والبهائم والطير كلها يوم القيامة، كقوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:٥].

وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال: يا أبا ذر! هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا.

قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما).

قال أبو ذر: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً.

وروى عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجلحاء لتقتص من القرناء يوم القيامة، ثم بعد ذلك يقول لها: كوني تراباً.

فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون تراباً) كما قال تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:٤٠].

وروى الإمام أحمد والبخاري في (الأدب المفرد)، ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء).

واستدل بهذه الآية على مسألة أخرى، فقد أخرج أبو الشيخ عن أنس أنه سئل: من يقبض أرواح البهائم؟ قال: ملك الموت.

فبلغ الحسن فقال: صدق، وإن ذلك في كتاب الله.

ثم تلا هذه الآية: ((إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ))، فاعتبر أن من المثلية أن يقبض روحها ملك الموت أيضاً؛ لأنها تحشر أيضاً.