للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب)]

قال تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:٤٩].

قوله: (وإذ نجيناكم) أي: واذكروا إذ نجيناكم، يعني: نجيناكم أنتم المخاطبون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام وآباءكم، والخطاب للموجودين في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم بما أنعم على آبائهم تذكيراً لهم بنعمة الله تعالى ليؤمنوا، (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ)، أي: يذيقونكم أشد العذاب، والجملة حال من ضمير: نجيناكم.

قوله: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ)، هذا بيان لسوء العذاب، فهو يشرح ما هو سوء العذاب، فأتى بأقسى وأشد مظاهره (يذبحون) بيان لما قبله، (أبناءكم) يعني: المولودين، (ويستحيون نساءكم) يعني: يستبقون نساءكم للإذلال والخدمة، فلم يقتلونهن كي يُتَّخذن خادمات، وقتلهم لأبنائهم هو بسبب قول بعض الكهنة لفرعون: يولد في بني إسرائيل مولود يكون سبباً لذهاب ملكك؛ فكان فرعون يقتل الذكور، ويستحيي النساء، والإمام الزجاج له تعليق طيب جداً على عقلية فرعون، فيقول هنا: فالعجب من حمق فرعون! إن كان الكاهن عنده صادقاً فما ينفع القتل؟! وإن كان كاذباً فما معنى القتل؟! يعني: من حمق فرعون الغبي الأحمق الذي يقول في حق موسى عليه الصلاة والسلام: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:٥٢]؛ أنه سمع كلام الكاهن، فإن كانت هذه فعلاً نبوة وخبر صادق من هذا الكاهن، أنه سيولد ولد من بني إسرائيل يكون زوال ملك فرعون على يديه؛ فماذا فعل فرعون الأحمق؟ قتل أبناءهم الذكور، فإن كان هذا كائناً لا محالة فما فائدة القتل؟! فهل سيمنع ما سبق به قضاء الله؟ لا يمنع! وإن كان الكاهن كاذباً فما معنى القتل؟! فالحالتان تدلان على ضعف عقله تماماً، كما أظلم الله قلبه وأطفأ بصيرته حينما تتبع بجنوده موسى وطارده هو وجنوده، ورأى الآية العظمى من آيات الله سبحانه وتعالى، تخيل أن البحر الأحمر يتحول إلى طرق يابسة، تخيل هذا المنظر! قال تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:٢٤]، ما معنى رهواً؟ يعني: ساكناً، يتحول الماء إلى أرض يابسة والناس ينظروا إليه بقدرة الله سبحانه وتعالى! فلما فلق موسى عليه السلام البحر بالعصا، انفلق فلقتين، فوقف الماء مثل الجدار كالطود العظيم أي: كالجبل العالي، وسكن الماء، (واترك البحر رهواً) يعني: ساكناً، فجدار من ماء متماسك بقوة الله وقدرته سبحانه وتعالى، ففرعون عمي قلبه أن يعتبر بهذه الآية، رأى الماء واقفاً، ورأى موسى ومن معه من بني إسرائيل ينجون ويمرون، والبحر واقف، ومع هذا لا يلتفت إلى هذه المعجزة القاهرة، وهذه الآية العظيمة، بل استمر في مطاردة موسى عليه السلام داخل البحر! قال الله: (واترك البحر رهواً) يعني: اسلكه ساكناً فإنه سينطبق عليهم حينما يدخلون، وكان ما كان، بعدما كان يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:٥١]، جعلها الله من فوقه، يعني: كان يفخر بأن مياه الأنهار تجري من تحته، فعاقبه بجنس عمله، فأجرى المياه من فوقه، وأغرقه في اليم.

يقول تبارك وتعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:٤٩]، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: فرعون لقب لمن ملك مصر كافراً، فكل من يحكم مصر وهو كافر يسمى فرعون؛ كما أن كسرى لقب لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وتبَّع لمن ملك اليمن كاملاً، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وخاقان لملك الترك؛ ولعتو فرعون اشتق من اسمه قولهم: تفرعن الرجل: إذا عتا وتمرد، وسبب سومه بني إسرائيل سوء العذاب من تذبيح أبنائهم على ما روي في التوراة: خوفه من نموهم وكثرة تواجدهم، وكانت أرض مصرَ امتلأت منهم؛ فإن يوسف عليه السلام لما استقدم أباه وإخوته وأهلهم من أرض كنعان فلسطين إلى مصر، أعطاهم ملكاً في أفضل أرض مصر كما أمره ملك مصر، وكان لهم في مصر مقام عظيم؛ بسبب يوسف عليه السلام فتكاثروا وتناسلوا، ولما توفي يوسف عليه السلام والملك الذي اتخذه وزيراً عنده؛ انقطع ذلك الاحترام عن بني إسرائيل، إلى أن قام على مصر أحد ملوكها الفراعنة، فرأى كثرة الإسرائيليين فقال لقومه: أضحى بنو إسرائيل شعباً أكثر منا، فهلم نحتال لهم لئلا ينموا، فيخشى أنه إذا حدث حرب أنهم يحاربوننا ويخرجونا من أرضنا، فسلط عليهم رؤساء تسخير كي يذلوهم بأثقالهم، وكان كلما اشتد تعبدهم ازدادوا كثرة وشدة، فشق على المصريين كثرتهم وخافوا منهم، فجعل أهل مصر يستعبدونهم جوراً، ويأمرونهم بالعمل الشديد بالطين واللبن وكل فلاحة الأرض وغيرها من الأعمال الشاقة.

وأمر فرعون بذبح أبنائهم كما قص الله تعالى، ولم يزل الأمر من هذه الشدة عليهم حتى نجاهم الله بإرسال موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقوله تبارك وتعالى هنا: ((وَفِي ذَلِكُمْ)) أي: في ذلك العذاب أو الإنجاء ((بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ))، كلمة (في ذلك) إشارة إما إلى ذلك العذاب أو إلى ذلك الإنجاء في قوله: ((وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ)).

إذاً: كلمة (بَلاءٌ) محتملة معنيين، فالبلاء إما أن يأتي بمعنى: النعمة أو بمعنى: النقمة، فإذا قلنا: (وفي ذلكم) الإنجاء (بلاء) أي: نعمة، وإذا قلنا: (وفي ذلكم) العذاب (بلاء) أي: نقمة، فبلاء بمعنى: ابتلاء أو بمعنى: إنعام؛ بحسب ما تترتب عليه الإشارة، إما إلى الإنجاء وإما إلى العذاب.