للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجن)]

قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام:١٠٠].

ولما ذكر تعالى هذه البراهين من دلائل العالم العلوي والسفلي على عظيم قدرته، وباهر حكمته، ووافر نعمته، واستحقاقه للألوهية وحده عقبها بتوبيخ من أشرك به والرد عليه، فقال عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام:١٠٠].

ونحن نعلم أن من أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الإلهية التركيز على آيات توحيد الربوبية، حتى تكون دليلاً ومقدمة لدعوة الناس إلى توحيد الإلهية، والسورة كلها هي في الدعوة إلى توحيد الإلهية، وأما ما فيها من آيات الربوبية فهو يقود مباشرةً إلى توحيد الإلهية.

قوله: (وجعلوا لله شركاء الجن) أي: جعلوهم شركاءه في العبادة.

فإن قيل: فكيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟ أي أن هؤلاء القوم كانوا يعبدون الأصنام، فكيف اتخذوا الجن شركاء من دون الله؟ فالجواب أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن وأمرهم بذلك، فالذين أمروهم بعبادة الأصنام هم الجن، كما في قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء:١١٧ - ١١٩] فكل المعاصي -سواء أكانت الكفر، أم ما دون الكفر- الآمر بها في الحقيقة هو الشيطان، كما في هذه الآية، وكقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف:٥٠]، وقال إبراهيم لأبيه: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:٤٤] لأن الذي يأمر بالشرك وعبادة الأصنام هو الشيطان، ووالد إبراهيم كان يعبد الأصنام، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام:٧٤] إذاً: كان يعبد الأصنام يتخذها آلهةً، وهو ظاهر الآية الكريمة، فمن الذي أمر بذلك؟ إنه الشيطان، ولأن الشيطان هو الذي يأمر بهذا الشرك، فالذي يفعل هذه المظاهر من الإشراك يكون عابداً في الحقيقة للشيطان وأوليائه وأتباعه وذريته من الجن، ولذلك قال هنا: ((وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ)) كقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:٦٠ - ٦١].

ولو أتيت إلى النصراني أو اليهودي أو المجوسي وقلت له: أنت تعبد الشيطان فربما استنكر منك ذلك جداً، ولقال اليهودي: أنا أعبد الله.

أي: حسب تصوره، ولقال النصراني: أنا أعبد المسيح.

وهكذا كل واحد يحاول أن يدافع عن المنهج الذي اختصه، لكن إنما هم في الحقيقة عابدون للشيطان؛ لأنه هو الذي يزين لهم ذلك، وهو الذي يأمرهم به.

قوله: (وأن اعبدوني) يعني: وحدي.

وقد ظهر في هذه الأزمان عجائب الفتن من عبادة الشيطان صراحةً في أوروبا وفي أمريكا، فيعبد الشيطان هناك صراحةً، ويتكلمون عن بطولة الشيطان، وعلى أنه هو الإله والعياذ بالله! وقبل هذا كانت هذه القضية مغطاة، وكنت إذا قلت لأحدهم: أنت تعبد الشيطان ينكر عليك ذلك، أما الآن فيعبد الشيطان صراحةً، حيث توجد معابد رسمية لعبدة الشيطان، ويمارسون كل الطقوس الشركية المعروفة عنهم والجرائم التي يفعلونها، ويسمون رسمياً بعبدة الشيطان، ولهم معابدهم، ولهم فرقهم والعياذ بالله! ويوجد ممن يسمون بالأدباء عندنا هنا -أيضاً- من يدافع عن إبليس، ويظن أنه بطل في الروايات ونحو هذه الأشياء التي يسمونها تحفاً أدبية، وفيها -أيضاً- تقديس للشيطان ودفاع عنه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقد ذكر الله سبحانه أن الملائكة تقول يوم القيامة: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:٤١].

والشيطان معروف أنه أصل الجن، فمن ثمَّ قال تعالى: ((وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وإعراب قوله تعالى: (وخلقهم) أنه حال من فعل (جعلوا) مؤكدة لما في جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان باعتبار علمهم بمضمونها، يعني: والحال أنهم يعلمون أن الله هو الذي خلقها.

أي أنهم عبدوا الجن مع أنهم يعلمون أن الله هو الذي خلق الجن، وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن، وليس من يخلق كمن لا يخلق.

وقيل: الضمير للشركاء أي: والحال أنه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له؟! وهذا كقول إبراهيم: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٥ - ٩٦] فانظر إلى الوقف هنا: (أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون) فعلى أحد التفسيرين: خلقكم وأعمالكم.

والتفسير الآخر: (خلقكم وما تعملون) من هذه الأصنام؛ وفي الحديث: (إن الله صنع كل صانع وصنعته) فإذا كان هو المستقل بالخلق وجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له، وقيل: المراد بالجن الملائكة.

فإنهم عبدوهم وقالوا عنهم: بنات الله.

وكلا الأمرين موجب للشريك، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن الولد كفء الوالد، فيشاركه في صفات الإلهية.

فقوله: (وجعلوا لله شركاء الجن) قيل: هم الملائكة.

فإذا كان المقصود الملائكة فلماذا عبدوا الملائكة وجعلوهم شركاء من دون الله عز وجل؟!

الجواب

لأنهم قالوا: إنما يستعان بالله سبحانه وتعالى عن طريقهم.

أو قالوا: إن الملائكة -والعياذ بالله- بنات الله! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وأما تسمية الملائكة جناً فهذه تسمية حقيقية وليست مجازاً؛ لأن لفظ الجن يشمل الملائكة لغةً؛ لأن الملائكة يخفون ولا يظهرون، ولذلك فإن الآية التي في سورة الكهف، وهي قوله تبارك وتعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:٥٠] ذهب فيها بعض المفسرين إلى قول مرجوح، فقال: الجن نوع من الملائكة.

أو أن طائفة من الملائكة تسمى جناً، والله تعالى أعلم.

والراجح أن إبليس ليس من الملائكة.

قوله: (وخلقهم) إشارة إلى الدليل القاطع على فساد كون إبليس شريكاً.

وتقريره أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم، بل هو محدث، وإذا ثبت هذا فنقول: إن كل محدث له خالق وموجد، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى، ولما كان إبليس أصلاً لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح، والمجوس سلموا أن خالقه هو الله تعالى، فحينئذٍ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد، فإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا: لابد من إلهين.

فسقط قولهم: إن هناك إلهين: إلهاً قديماً وإلهاً محدثاً، والعياذ بالله.

فقوله: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم) يعني: اتخذوهم شركاء مع أنهم يعلمون أن الله خلقهم، أي: خلق العابدين أو خلق الشركاء أنفسهم (وخرقوا له) يعني: اختلقوا وافتروا له (بنين) وهذا كقول أهل الكتابين في المسيح وفي عزير، وهو -أيضاً- كقول بعض العرب في الملائكة، ولذا قال تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:٤]، وبعض الناس تذهب عقولهم مباشرة في هذه الآية إلى النصارى فقط، وينسون أنها كذلك في غير النصارى الذين قالوا: اتخذ الله ولداً.

فاليهود قالوا: عزير ابن الله.

والنصارى قالوا: المسيح ابن الله.

والمشركون قالوا: إن الملائكة بنات الله.

فكلمة ولد تشمل الذكر والأنثى.

فقوله: (وخرقوا) أي: اخترقوا واختلقوا وافتروا له (بنين وبنات بغير علم)، يقال: خلق الإفك وخرقه واختلقه.

وسئل الحسن عنه فقال: كلمة عربية كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا كذب كذبةً في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله.

يعني: اختلقها وافتراها.

ويجوز أن يكون من (خرق الثوب)، إذا شقه، أي: اشتقوا له بنين وبنات.

وقُرئ: (وخرَّقوا له بنين وبنات بغير علم) وهذا للتكثير.

وقوله: (بغير علم) أي: من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، ولكن رمياً بقول عن عمىً وجهالة من غير فكرٍ وروية، أو بغير علم بمرتبة ما قالوا، وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقدر قدره، وفيه ذم لهم بأنهم يقولون بمجرد الرأي والهوى، وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه تعالى إلا ما جُزم به وقام عليه الدليل.

ثم نزه ذاته العلية عما نسبوه إليه بقوله سبحانه وتعالى: (سبحانه وتعالى عما يصفون) يعني: من أوصاف الحوادث الخسيسة من المشاركة والتوليد.