للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حقيقة الفوز]

قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:١٨٥] فاللهم اجعلنا من الفائزين.

فالفوز كل الفوز ليس في أنك تأخذ شهادة استثمار، ولا في أن ابنك يدخل الطب أو الهندسة، بل الفوز كل الفوز أن تزحزح قدماك عن النار وتطأ قدماك الجنة.

قيل لـ عثمان: ما هي أسعد اللحظات يا عثمان بن عفان؟ فقال: أن تجد نفسك في جنة الرضوان.

وهل هناك سعادة أفضل من هذه السعادة؟! ولذلك جاء في الحديث الشريف: (يؤتي بأبأس أهل الأرض فيغمس في الجنة غمسة، يقال له: هل رأيت شدة قط؟! هل مر بك بؤس قط؟! فيقول: لا والله ما رأيت شدة قط، ولا مر بي بؤس قط).

فأبأس أهل الأرض الذي لم ير يوم هناء من زوجة ولا من أخ ولا من جار ولا من مدير في العمل ولا من حاكم ولا من محكوم، بل رأى الذل كله، ورأى الفقر بعينه، ورأى أياماً ضنكا، ولكنه صبر لما ابتلاه الله عز وجل، فيغمس في الجنة غمسة فيخرج كالبدر ليلة التمام، فيقال له: عبدي! هل رأيت بؤساً من قبل قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك إني في النعيم منذ أن خلقتني.

فنسي كل الهموم والبلاء الذي من جهة أقاربه وإخوانه الذين أتعبوه في المحاكم من أجل فدان من الأرض، وكل الذل الذي رآه في الدنيا.

ويؤتى بأنعم أهل الأرض ممن رأى النعيم كله ورأى العز كله ورأى الخير كله، وكان الناس يرفعون له التعظيم، وتفتح له الأبواب، ولكنه لم يتق الله، فلم يستخدم نعم الله في شكر الله عز وجل، بل استخدمها في معصية الله، فيغمس في النار غمسة فيخرج كالفحمة المتوقدة، فيقال له: عبدي! هل رأيت نعيماً من قبل قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك إني في الشقاء منذ أن خلقتني.

فاللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها يا رب.

ولذلك لم يغفل الصحابة رضوان الله عليهم عن الخوف من الله وعن ذكر الله، فقد جاء رسول سعد بن أبي وقاص لينبئ عمر بن الخطاب بفوز ونصر المسلمين في القادسية، فلما وصل رسول سعد إلى المدينة في نصف الليل قال: هل يعقل أن أطرق على أمير المؤمنين الباب الآن؟! إنه لم يبق إلا ساعة أو ساعتان وسيخرج ليصلي بالمسلمين صلاة الصبح، فدخل ليزور قبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فدخل الروضة الشريفة فوجد في قبلة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ساجداً يبكي بكاء مراً وقد علا نحيبه وهو يقول: يا رب! لائذ ببابك، عائذ بجنابك، لا تطردني من رحابك.

فقال الرجل في نفسه: هذا رجل أسرف على نفسه، فسأنتظر حتى ينتهي من الصلاة من أجل أن أحدثه بأحاديث الرحمة حتى لا يقنط من رحمة الله، ومن أجل أن يستشعر فضل الله سبحانه وتعالى، فلما سلم رأى أمير المؤمنين عمر، فقال له: يا أمير المؤمنين! أبيت أن أطرق بابك في نصف الليل وأنت هاهنا في المسجد؟! فقال: يا أخا الإسلام! إن نمت النهار كله أضعت رعيتي، وإن نمت الليل كله أضعت نفسي.

ولذلك عندما دخل أبو حازم على أبي جعفر المنصور قال له: يا أبا حازم! عظنا، فقال: يا أمير المؤمنين! صل إلى كل ذي حق حقه، فقال: وإن كنت لا أستطيع؟ قال: دعها لمن يستطيع، ولا تتحمل تبعات الناس يوم القيامة، إن الأمير العادل ليؤتى به يوم القيامة ينتفض على الجسر انتفاضة يطير منها كل عضو من أعضائه لا يعيدها إليه إلا عدله.

يعني: أن الأمير العادل سينفك جسمه، وسيطير كل عضو إلى مكان، ولا يعيد هذه الأعضاء ولا يجمعها إلا العدل، فيجب عليك أن تكون عادلاً، وإن كان الخصم بغيضاً إليك، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:٨]، فلا تدفعني كراهيتي لإنسان إلى ألا أقول الحق، ومن صفات المنافق أنه: (إذا خاصم فجر).

<<  <  ج: ص:  >  >>