للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ثمرة الائتساء برسول الله صلى الله عليه وسلم]

الحمد لله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد: فهذه هي الحلقة الثامنة عشرة في سلسلة حديثنا عن السيرة العطرة على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات من رب الأرض والسماوات، وهي الحلقة الخامسة في الحديث عن الصلاة عماد الدين التي إن أقامها المسلم فقد أقام الدين، وإن هدمها فقد هدم الدين.

فاللهم اجعلنا من المقيمين للصلاة ومن المحافظين عليها ومن الخاشعين فيها ومن الذين تقبلت منهم صلاتهم وعبادتهم يا أكرم الأكرمين.

اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا سالماً غانماً رددته.

اللهم اجعل جمعنا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل -يا ربنا- بيننا شقياً ولا محروماً.

اللهم تب على كل عاص، واهد كل ضال، واشف كل مريض، وارحم كل ميت، واشرح صدر كل إنسان صدره ضيق يا أكرم الأكرمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

إن دروس السيرة فيها عبر عظيمة وفوائد جمة كثيرة؛ لأن فيها الحديث عن أعظم إنسان وجد على ظهر البسيطة، وهو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد فيه المرء الأب الحنون، ويجد فيه الصديق المخلص، ويجد فيه قبل كل شيء وبعد كل شيء الأسوة والقدوة الحسنة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:٢١] صلى الله عليه وسلم.

وهو أسوة في كل شيء في الحياة، فيجب أن نتأسى في كل خطوة من خطوات حياتنا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن المرء منا في كل عمل وفي كل قول وفي كل فعل وفي كل خطوة وفي كل جلسة وفي كل ذهاب ومجيء يسأل نفسه: لو كان الرسول مكاني فماذا كان سيصنع؟! وسوف تستقيم حياتك بهذا الشكل.

فلو أن أخاك دعاك إلى فرح، فإنك تقول له: يا فلان! هل هذا الفرح فيه أغان؟! فيقول: وهل يتم فرح من دون أغان؟! فتسأل نفسك مباشرة فتقول: لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم مكاني ودعي إلى هذا المكان فهل سيذهب أم لا؟ والإجابة واضحة، ولا تريد توضيحاً.

فلو أنك في كل حركة تسأل نفسك قائلاً: لو كان الرسول مكاني فماذا كان سيعمل، لاستقامت الأمور.

فلو أن زوجتك رفعت صوتها عليك بعد أن جئت إليها وأنت فرح ومعك بعض الأشياء الطيبة، فإنك تسأل نفسك هذا

السؤال

لو كان الرسول مكاني فماذا كان سيعمل؟! والحال أنه لو كان مكانك لتبسم في وجهها.

ولو أن جارك آذاك، فإنك تسأل نفسك أيضاً قبل أن ترد، فتقول: لو كان الرسول مكاني فماذا كان سيعمل؟! هل سيجرجر جاره في القسم؟! وهل سيستعدي عليه الناس؟!

و

الجواب

لا، بل سينصحه بالتي هي أحسن، فإن انتصح وإلا شكاه إلى الله رب العالمين.

هكذا كان الحبيب المصطفى أسوة، فما الذي يجعلنا لا صبر لنا؟ إننا لم نتأس برسول الله في أعماله، ولا أريدك أن تحب رسول الله حباً نظرياً، بل أريدك أن تحب سيدنا الحبيب حباً عملياً، فهل كان يسخر من أحد؟! وهل كان يتكبر على أحد من المسلمين؟! ومن أعلم من رسول الله؟! لا أحد في الخلق أعلم من رسول الله، فهل تكبر بعلمه على أحد؟! لقد دخل عليه الأعرابي وقال له: (يا رسول الله! من ذا الذي يحاسبنا يوم القيامة؟ فقال له: الله.

فقال له: إذاً -والله- لا أبالي)، فهل قال له: أنت مخطئ؟! لا، بل كان يتبسم، ودخل أعرابي عليه فأخذ يتكلم، فقال له عمر: اسكت يا أعرابي، فقال له: لماذا؟ قال له: إن الرسول غضبان؛ لأن اليهود نقضوا البيعة، ففي هذا الوقت لا يحب أن يتكلم.

فقال: والذي بعثه بالحق نبياً لن أتركه حتى يضحك.

فسيدنا عمر يحبس الأعرابي، والأعرابي عازم على أن يضحك النبي، فقال له أبو بكر: اتركه يا عمر.

يعني أن الرسول رحب الصدر، فدخل على الحبيب فوجد العرق الهاشمي قد امتلأ، وبذلك يفرق الصحابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم غاضب، وكان يغضب إذا انتهكت حرمة من حرمات الله، ولم يغضب لنفسه قط، فقال الأعرابي: يا رسول الله! سمعتك تقول: (إن المسيخ الدجال سوف ينزل معه طعام فيه ثريد، ولا طعام في الأرض ساعتئذٍ إلا طعامه)، أي: لا يوجد أكل على وجه الأرض إلا الذي يملكه المسيخ الدجال.

ثم قال: (أأدعي إيماني به فأضرب في ثريده حتى أشبع ثم أكفر به يا رسول الله؟! فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فنظر إلى عمر وقال: ألم أقل لك: إني لن أتركه حتى يتبسم).

ولو كان غير النبي صلى الله عليه وسلم لقال له: أنت مضيع لوقتنا.

وسهيل بن عمرو كان يرفع صوته في صلح الحديبية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان الكاتب هو سيدنا علياً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب يا علي! بسم الله الرحمن الرحيم.

فقال سهيل: أنا لا أعرف الرحمن ولا الرحيم، فقال له: اكتب: باسمك اللهم، فكتب (باسمك اللهم) فقال له: اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.

فقال له سهيل: لو أعلم أنك رسول الله ما قاتلتك.

يريد أن ينفي عن سيدنا الحبيب صفة الرسالة، ورسولنا قادر على دخول مكة، ولكن لم يأذن الله بعد، وليس لكل واحد منا أن يستعجل، فلا تستعجلن أبداً ما عند الله؛ فإن ما عند الله يطلب بطاعته ولا يطلب بمعصيته.

فقال له: اكتب يا علي: هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله، فسيدنا علي رفض أن يمسح (رسول الله) فقال له: أين هي يا علي؟ فقال له: ها هي.

فمحاها الرسول بيده.

فعلى المسلم أن يتأسى بسيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في كل قول وفي كل فعل وفي كل عمل وفي كل خطوة وفي كل مجلس.

إذاً: عندما تذهب إلى أي مكان قل لنفسك: لو كان الرسول هنا فهل سيرضى أن يجلس هنا؟! إن أخلاق الرسول ضاعت بيننا، فالواحد منا قد يقف يصلي ساعتين، ولكنه عند المشاكل يكون شخصاً آخر، فالناس قد تبكي بداخل الجامع، وبعد دقيقة يخرجون فيبكون من المشاكل من أجل أن واحداً ضرب آخر.

فكأننا في المسجد عصافير محبوسة في قفص، ترى الواحد منا جالساً يسمع خطبة الجمعة ويصلي وهو باك متضرع إلى الله قانت، وعند الخروج تجده يزاحم يريد أن يخرج.

فالمسلم عندما يرى الحبيب في كل عمل له، وفي كل خطوة له، وفي كل قول له يكفيه ذلك: وقد روي أن رجلاً دخل على أبي بكر فشتمه من باب الغيظ، فسكت أبو بكر، فأعاد مرة أخرى، فسكت أبو بكر، فلما أعاد الثالثة قام أبو بكر يريد أن يرد، فقام الرسول صلى الله عليه وسلم ليغادر المجلس، فقال: يا رسول الله! سكت في أول مرة وسكت في المرة الثانية، فلما أردت أن أرد في المرة الثالثة قمت من المجلس؟! فقال: يا أبا بكر! أرسل الله ملكاً ليرد عليه، فلما أردت أن ترد فارق الملك المكان وحضر الشيطان، وأنا لا أجلس في مجلس فيه شيطان.

إذاً: فكل اثنين يتشاجران فالموجود بينهما هو الشيطان، فهو الذي يملي عليهما، فيقول: عيره بأمه عيره بأبيه، ولذلك كان من رحمة الله عز وجل بنا أنه لا يسمعنا عذاب أهل القبور، وإلا لعير بعضنا بعضاً بمن سبق إلى لقاء ربنا سبحانه وتعالى.

فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة لنا في كل شيء.

<<  <  ج: ص:  >  >>