للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ضرورة اعتبار الجماعات الإسلامية وسائل للدعوة]

فالأمة سيحصل فيها اختلاف، فلا تغضب ولا تحزن حين تجد الأمة فرقاً؛ فما تجده على الساحة من اختلاف ينبغي أن تنظر إليه بعين قلبك لا بعين بصرك، فلا تعتبر هذه المجموعات فرقاً متناحرة، بل اعتبرها وسائل دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذه المسألة أساس الدعوة كلها، فندعو بالحكمة؛ لأن الله قال لرسوله هذا، فقد قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:١٢٥]، كان السائب بن عبد الله رجلاً من بني مخزوم، وكان رجلاً عنيداً، وبنو مخزوم بطبيعتهم أناس لا يقادون بسهولة، وهم عشيرة خالد بن الوليد، وحالهم كما قال الشاعر: إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً تخر له الجبابر ساجدينا ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطيناً فهو لما يشرب يشرب صفواً.

سنبدأ ظالمين وما ظلمنا ولكنا سنبدأ ظالمينا فـ السائب بن عبد الله المخزومي لما وقع في الأسر ساقه الصحابة مصفداً بالأغلال؛ لأنه كان مقاتلاً صنديداً، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتصفح وجوه الأسرى صافحه وقال: مرحباً بأخي وشبيهي.

وكان فيه شبه من الرسول صلى الله عليه وسلم.

فلما قال صلى الله عليه وسلم هاتين الكلمتين، قال: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم قال: والله لقد جئت وما أحد على وجه الأرض أبغض إلى قلبي منك، وسوف أعود إلى أهلي وما أحد على وجه الأرض أحب إلى قلبي منك، وما أرض أحب إلى قلبي من أرض أنت فيها يا رسول الله، فهذا أثر الحكمة والموعظة الحسنة.

ولقد كان صحابة الحبيب المصطفى لكل واحد منهم شخصية مستقلة، فـ أبو بكر كان ليناً هيناً ودوداً، وكان من رحمة الله أنه هو الذي خلف رسول الله بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.

فقد كان المسلمون بحاجة إلى من يعاملهم برقة ويعاملهم بالتي هي أحسن، فكان أبو بكر على نفس منوال الحبيب، وأما عمر بن الخطاب فإنه -مع إيمانه وقوته وقدرته- كان عنيفاً في الحق.

فرسولنا صلى الله عليه وسلم رأى فيه أصحابه الرأفة والرقة، فقد أرسلت إليه السيدة زينب بنته تقول: إن ابني ينازع، فاحضر إلينا.

فهي تريد أن يكون حاضراً عند خروج روح ابنها الذي كان عمره بضع سنوات.

فأسرع الرسول صلى الله عليه وسلم مع بلال وعمار وعلي وبعض من الصحابة، فوضع الرسول حفيده في حجره وضمه إلى صدره، فخرجت روح الولد، فأجهش الرسول بالبكاء، فاستغرب سعد بن أبي وقاص ظاناً أن هذا ليس من الصبر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (يا سعد! هذه رحمة وضعها الله في قلب من يحب من عباده، ومن لا يرحم لا يرحم).

فالبكاء مسألة رحمة وليس عنواناً للجزع، وقد دخل سيدنا عمر على نساء قاعدات في مأتم وفيهن واحدة تعدد محاسن الميت والنساء يرددن بعدها، فناول عبد الرحمن بن عوف الدرة وقال: اضرب هذه؛ فإنها تأمر بالجزع وقد نهى الله عنه، وتنهى عن الصبر وقد أمر الله به.

فتلك طريقة الصحابة في دعوتهم، فـ أبو بكر لين، وعمر شديد في الحق.

وأما أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد فقد كان على يديهما فتح الشام، فلما دخلا دمشق وقع أمر عجيب، فالمكان الذي دخل منه أبو عبيدة دخله بالصلح، فدخل عن طريق السلم والمعاهدة، والمكان الذي دخل منه خالد بن الوليد دخله بالحرب؛ لأن خالداً كان مفطوراً على الجندية، فـ خالد جندي، وأبو عبيدة داعية إلى الله، وأبو ذر رجل ناسك، وعثمان بن عفان رجل قائم بالليل، وسيدنا بلال رجل عابد لله عز وجل، وسيدنا عمر بن الخطاب رجل أمين قوي، فهذه العناصر الطيبة من الصحابة إذا وضع كل واحد منها على حدة قلت: هذا هو الإسلام، وحين تجمعهم كلهم تقول أيضاً: هذا هو الإسلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>