للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الوجه الخامس لكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي]

إن فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه وزينته وسروره ولذته ونعيمه، أما ترك المنهيات بدون ذلك فلا يحصل به شيء من ذلك؛ لأنه لو ترك المرء جميع المنهيات ولم يأت بالإيمان والأعمال المأمور بها؛ لم ينفعه ذلك الترك، مثل الذي لا يصلي ولا يصوم، ولكن يقول: أنا أعامل الناس معاملة حسنة ولا أسرق ولا أغتاب أحداً ولا أنم.

فهذا ترك المنهيات، ولكن لم يعمل الأوامر التي هي الصلاة والحج وغيرهما، فهل هذا يقبل منه الإيمان؟! مع أنه ترك كل المنهيات التي نهى عنها الله عز وجل، فلا يفتري على أحد، ولا يكذب على أحد.

وليس معنى هذا أن الأمر نفسه نهي، لا، فالأمر أمر والنهي نهي، فربنا سبحانه وتعالى أمرني بأوامر ونهاني عن مناه، فلابد من أن آتمر بالأمر.

يقول ابن القيم: (لكن فعل الأمر أفضل).

فمازال يؤكد أن فعل الأمر أفضل عند الله من ترك النهي.

يقول: فمن فعل المأمورات والمنهيات فهو إما ناج مطلقاً إن غلبت حسناته سيئاته، وإما ناج بعد أن يؤخذ منه الحق ويعاقب على سيئاته، فمآله إلى النجاة، وذلك بفعل المأمور، ومن ترك المأمورات والمنهيات فهو هالك غير ناج.

فهذا هو الكلام المؤكد، يقول: شخص يعمل المأمورات، فالله عز وجل أمره بأوامر فهو يعملها، يصلي ويصوم ويتقي الله، ويغض البصر، وفعل المنهي، حيث كذب وسرق، قال: هذا أمره إلى الله، فإن غلبت حسناته سيئاته نجا؛ إذ إننا في الآخرة ثلاثة أصناف: فمنا من حسناته تغلب السيئات، ومنا من تستوي حسناته وسيئاته، ومنا من تكون سيئاته أكثر من الحسنات، ثم إن من كانت حسناته أكثر من سيئاته فريقان: مقربون وأصحاب يمين، فمن المقربين أبو بكر وعمر وعلي وعثمان.

فإذا كنا نفعل المأمورات ونرتكب المنهيات وغلبت الحسنات السيئات فذلك خير وبركة.

وإذا كانت حسناتنا مثل السيئات كنا من أصحاب الأعراف، وإذا جاءت السيئات أكثر من الحسنات فهناك ننجو بشفاعة، أو يأتي عفو الرحمن.

أما من يترك المأمورات والمنهيات، فلا يصلي ولا يصوم فهو هالك، إذاً: الأساس كله يدور على فعل المأمورات وقد يشكل الهلاك بالشرك، وذلك أمر مجاب عنه، فإن قلنا: إنما هلك بارتكاب المحظور وهو الشرك، قيل: يكفي في الهلاك ترك نفس التوحيد المأمور به.

الذي يشرك بالله هذا ارتكب منهياً، ولكنَّه ترك مأموراً، وهو التوحيد، فالقضية في الشرك ترك المأمور الذي هو توحيد الله عز وجل.

كما أن المدعو إلى الإيمان إذا قال: لا أصدق ولا أكذب، ولا أحب ولا أبغض، ولا أعبده ولا أعبد غيره؛ كان كافراً، كشخص يقول لك: إن هناك قوة في العالم أنت تسميها الله أو تسميها أي شيء، فأنا لا أعبد الله ولا أعبد غير الله، والعياذ بالله، فهذا يكون كافراً بمجرد الترك والإعراض بخلاف ما إذا قال: أنا أصدق الرسول وأحبه وأؤمن به، وأفعل ما أمرني، ولكن شهوتي وإرادتي وطبعي حاكمة علي لا تدعني أترك ما نهاني عنه، وأنا أعلم أنه قد نهاني وكره لي فعل المنهي، ولكن لا صبر لي عنه، فهذا لا يعد كافراً، ولكنه مؤمن عاص.

فهو يؤمن بأنه يحب الرسول ويعمل المأمورات، ولكن الشهوات تغلبه جداً إلى درجة أنه يأخذ من مال الناس ما لا يحق له، وينظر نظرة محرمة، ويسمع السماع، ويشرب كذا، وكل هذه الأمور الله سبحانه وتعالى سوف يغفرها له إذا شاء، ولكن عندما يترك الأمر فيقول: أنا لا أحب ولا أبغض، ولا أعمل المنهي؛ يكون كافراً والعياذ بالله.

<<  <  ج: ص:  >  >>