للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرغبة في الآخرة مرهونة بالزهد في الدنيا]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا] وهذا صحيح، قيل لـ أبو حازم: لماذا نكره الآخرة ونحب الدنيا؟! كأن يحدث أحدنا نفسه ويقول: لو مت فسوف أترك المال والثروة والبيت والسيارة والمنصب، والمركز الاجتماعي، والأموال في البنوك، والترشيح للوزارة، والترشيح للإدارة، فتجده يكره الموت.

فقال أبو حازم: تكرهون آخرتكم وتحبون دنياكم؛ لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، والإنسان لا يتمنى أن ينتقل من العمران إلى الخراب.

فلو عَمَّر الإنسان الآخرة فإنه سوف ينتقل إلى العمران وسوف يفرح بذلك، ومثل ذلك: الأم التي تظل تربي ابنتها وبعد ذلك تزوجها، فتنتقل إما إلى زوج صالح أو إلى زوج غير صالح والعياذ بالله رب العالمين.

إذاً: مجرد أنها ترى أن زواجها أفضل لها، فما بعد الزواج أفضل لها، والبنت تجدها فرحة لأنها ستتزوج؛ ولأنها ذاهبة إلى مكان هي مقتنعة أنه مكان أفضل.

فكذلك المسلم لو اقتنع أن الآخرة عنده أفضل فسوف يعمل لها.

قال: [ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها وألم المزاحمة عليها].

إننا نجد أنفسنا عندما نكون واقفين في طابور نشتري شيئاً أو نحجز شيئاً، فكل واحد يريد أن يذهب الأول، فيقول: لو أعرف أحداً في هذه المصلحة لكنت دفعت المبلغ وذهبت، ولو أعرف فلاناً لكنت أنهيت هذه المسألة اليوم، وهكذا نزاحم على الدنيا ونتعب كثيراً.

قال: [وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها، فهذا أحد النظرين].

أي: أن الإنسان لكي يحب الآخرة ويزهد في الدنيا، لا بد أن ينظر لحقيقة الدنيا، مثلما نظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى امرأة عجوزاً وعليها أساور ومجوهرات وحلياً وزينة، وكانت تناديه: يا محمد! يا محمد!، ولم يرد عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينظر إليها، فقالت: إن نجوت مني فلن ينجو مني أصحابك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: من هذه يا جبريل؟! قال: هذه هي الدنيا.

يقول الشاعر: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق فالدنيا ترفع أناساً وتخفض آخرين، وكم من أولاد أعزاء ذهب عليهم العز، والذي كان لديه مال ذهب ماله، والذي كان في مركز اجتماعي ذهب مركزه.

والله يبتلي العبد في الدنيا لكي يضرع إلى الله، ويعلم أن الدنيا ليست دار مقر بل دار ممر، فنحن نفرح في السفر؛ لأننا قربنا أن نصل، وعندما نتعب في الدنيا، فمن الواجب ألا نحزن؛ لأننا نعلم أننا أوشكنا على الوصول إلى الله رب العالمين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينها وبين ما هاهنا، فهي كما قال الله سبحانه: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:١٧]، فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة، فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره وزهد فيما يقتضي الزهد فيه].

أي: أن العاقل يعلم أن الباقية وما فيها من المسرات أحسن من الفانية التي فيها المكدرات، ومن فينا لم يمر عليه يوم إلا وهو في هم جديد؟ والدنيا هكذا دار عمل واختبار، والجاهل من يلعب ويلهو ويتفاخر، يقول تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:٢٠]، فالدنيا مثل ذهاب السكرة وحضور الفكرة، والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فإذا ما انتبهوا ندموا ولن ينفع الندم بعد ذلك، إذ تأتي الإنسان حالة من النوم في الدنيا، وينتبه للأسف عندما يموت، وبمجرد أن ينتبه يقول: وا حسرتاه، لم أصل، ولم أزك، ولم أذهب لدروس العلم، ولم أعمر المساجد، ولم أتصدق، ولم أؤد حق الله في المال، فيحزن ويندم، لكنه ندم لا محل له.

<<  <  ج: ص:  >  >>