للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قلب فارغ من محبة ربه صاحبه ضائع]

الشيء الرابع من الأشياء الضائعة التي ما ننتفع بها: قلب فارغ من المحبة لله والشوق إليه والأنس به، وهذه هي قلوب قال الله فيها: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:٤٣]، هواء يعني: فارغة.

ولذلك قالوا: إن النفس كالزجاجة، إذا ما امتلأت بالماء تمتلئ بالهواء، وهكذا النفس إن لم تشغلها بالحق تشغلك بالباطل، والنفس مثل الدابة أو السيارة، لا بد أن تكبح جماحها حتى تنقاد لك وتمشي كما تريد.

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم.

أي: هي على ما عودتها وربيتها عليه، فإن عودتها على القناعة تقنع، وإن عودتها على قلة الأكل تعودت، وإن عودتها على قيام الليل تعودت، وإن عودتها على الصبر تتعود، وإن عودتها على الجشع والطمع والنظر إلى ما في أيدي الناس، والحقد والضغينة وشغلتها به تعودت، وهذا هو تخصصها والواجب أن تسلب منها تخصصها، واعلم أن كل شيء تكرهه النفس يقربك إلى الله غالباً، وكل ما تحبه النفس يقربك إلى النار غالباً.

من منا تحب نفسه الصيام وقيام الليل؟ وهكذا فالنفس الراضية تملأ قلب العبد محبة لله، ولهذه المحبة التي لله تعالى دلائل وروافد، فروافد المحبة هي مصادرها وينابيعها، ونحن نريد أن نعرف منابع المحبة.

أول منبع من منابع المحبة: التدبر للقرآن، ثم تحري أكل الحلال، ثم الثقة بما عند الله، أي: أن تكون بما في يد الله أوثق مما في يدك أنت، مثل أبي بكر الذي كان يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله! إنما نعطي لك لتنفقه في سبيل الله، أحب إلينا مما يبقى في بيوتنا).

أي: المال الذي أخرجناه أحسن عندنا من المال الذي بقي عندنا؛ لأن المال الذي بقي في أيدينا سيضيع، لكن الذي ذهب في سبيل الله فهو عند الله باق، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (أما بقي من الذراع شيء؟ قالت: ذهبت كلها وبقي الذراع، قال: كلا، بل بقيت كلها وذهب الذراع)، فانظر الفقه، يعني: الشاة التي ذبحناها أبقي منها شيء؟ قالت: كلها ذهبت أي: أنفقت لله وبقي الذراع، فقال لها: لا، بل بقيت كلها عند الله وذهب الذراع؛ لأنا أكلناه.

ولذلك نذكر خبر الصحابي الذي مات وهو يقول: يا ليته كان طويلاً، يا ليته كان جديداً، يا ليته كان كاملاً، وفاضت روحه، وقصته أنه وهو يموت شعر بالجوع، فالملائكة أتت له بطعام فأكل، فتذكر أنه ذات مرة تصدق بنصف رغيف، فكان إطعام الملائكة له على قدر صدقته، فتمنى لو كان تصدق بالرغيف كله، فقال: يا ليته كان كاملاً، وشعر بعطش شديد فلما روي قال: ما الخبر؟ فقيل له: إنك مرة كنت لابساً ثوبين، ثوباً قديماً، وثوباً جديداً، وواحد يقول لك: لله، فذهبت وخلعت له الثوب القديم، فقال: ليته كان جديداً، وشعر بضيق تنفس في صدره فصرف عنه ما هو فيه، فقال: ما هي الحكاية؟ قال: ذات مرة كنت ذاهباً إلى الجامع، فلقيت شيخاً كبيراً يقول: خذ بيدي، فأخذت بيده، فقال: يا ليته كان بعيداً، فليس هناك شيء يضيع عند الله، قال تعالى في آخر سورة الزلزلة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧ - ٨].

فكل ذلك محفوظ عند الله تعالى، ولن يضيع.

فمنابع المحبة: تلاوة القرآن، والتدبر لما فيه، وحضور مجالس العلم، وأن يكون أمر الآخرة أهم عندي من أمر الدنيا؛ لأنه في الحديث: (المؤمن في الدنيا غريب، لا يأنس بعزها ولا يجزع من ذلها).

لا يأنس بعزها لأنها غدارة لا تبقى على حال، وكلنا نحفظ هذا الكلام، لكن أين اليقين؟ أنا أريد أن يتحول علم اليقين إلى عين اليقين، أريد أن أرى الدنيا أمامي وهي تضحك على أهلها، والحال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يأنس من عزها، ولا يجزع من ذلها).

إذاً: فهذه منابع المحبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>