للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أهمية الاستمرار في تجديد النية]

وإذا ألجأته مرة أخرى وثانية وثالثة ولو مائة مرة، فليستغفر وليتب، وفي الحديث: (ما أذنب من استغفر من الذنب ولو عاد إليه مائة مرة).

بل يقول الله في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض ذنوباً ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لجئتك بقرابها مغفرة).

وقال الرجل الصالح: يا رب! أنا أنا وأنت أنت، أنا العواد إلى الذنوب، وأنت العواد إلى المغفرة، فعاملني بفضلك ولا تعاملني بعدلك، العباد لك غيري كثير، لكن لا رب لي سواك، فاغفر لي وارحمني.

فيتملق لله، ويتودد إليه بهذا المنطق، وينيخ راحلته على باب الله عز وجل، فأهم شيء في موضوع تجديد النية أن تتوب من الذنوب أولاً بأول.

وهل نحن محاسبون على نياتنا؟ قد تسبق نية المرء عمله، مثل أن أقول: إن شاء الله قبل أن ينتهي رمضان سأخرج كذا وكذا من الصدقة، وليس لها دخل بالزكاة أو زكاة الفطر، فجاءت أمور عطلتني وأنا صادق في النية، فالأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من هم منهم بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة).

في عام من أعوام المجاعة رأى رجل من بني إسرائيل جبلاً من حصى ورمال وأحجار، وليس في يده ما يعطي الفقراء، فقال يا رب! وعزتك وجلالك لو كان هذا الجبل طعاماً لوزعته على عبادك ابتغاء مرضاتك، فقال الله: يا موسى! بلغ عبدنا أنا قد قبلنا منه صدقته.

فالذي يعطي هو الكريم سبحانه، فلِمَ التيئيس من الله سبحانه وتعالى! والكافر المستمرئ المعصية، والمجرم الظالم للناس والحقود والحسود الذي لا يريد خيراً بالناس، والذي ليس له رأفة بأحد لا بإنسان ولا حيوان، الذي يريد أن يكون مفترساً، فهذا هو الذي ينتقم منه رب العباد، وهو الجبار عليه.

لكن العبد المسلم يتصف ويعيش مع صفات الجمال لله عز وجل كالرحيم والودود والغفور والعفو والستار، ونحوها، وينقمع وينخاف من الصفات الأخرى كالجبار والمنتقم والقهار ونحوها.

وقد يتساءل متسائل فيقول: نوعية الذنوب التي يقترفها العبد وبها تسوء الخاتمة والعياذ بالله: من السرقة، والقتل، والزنا، والغيبة، ونحوها، كيف يبدل الله سبحانه وتعالى هذه السيئات إلى حسنات؟ وماذا يصنع العبد في الدنيا لنيل ذلك؟ من أنواع الصدق صدق الجوارح، وهذا من الصدق مع الله أيضاً، ونحن لا زلنا تحت عنوان: الصدق مع الله.

وصدق الجوارج معناه: أنت تغسل يديك جيداً، ألم تقل السيدة سكينة عن الإمام الشافعي: رحم الله الشافعي كان يحسن الوضوء.

وهذا صاحب مذهب، ونحن قد نجد طفلاً صغيراً عندنا يحسن الوضوء، لكن لا يحسن الوضوء الحقيقي، فما هو الوضوء الحقيقي؟ الوضوء الحقيقي: أنا أغسل يدي من الذنوب، وكانت العرب تقول: نظيف اليد، ويسمى هذا في البلاغة: كناية، أي: كناية عن استقامته، فلا يأخذ رشوة بها، ولا يضرب أحداً، ولا يأخذ مالاً حراماً، ولا يلمس شيئاً يحرم عليه، إذاً: فهو نظيف اليد من الذنوب.

وعندما يتمضمض هل المراد المضمضة فقط؟ لا، فقد يكون الفم نظيفاً، والصائم فمه أنظف، لكن عندما أتمضمض أقول: لا داعي للغيبة ولا للنميمة ولا للكذب، فهذا الوضوء هو وضوء الفم، وهكذا.

فعند أن أستنشق لا أشم ما حرم الله عز وجل، وعند أن أغسل وجهي أعزم أن العين لا ترى والأذن لا تسمع شيئاً حرمه الله، وإن مسحت الرأس فأعزم أن العقل هذا لا يفكر إلا في الله وفي رحمته وفضله ونصر دينه، وعند غسل الرجلين أقول: إن هاتين الرجلين لن أمشي بهما إلا إلى بيت الله، وإلى مجالس العلم والخير، كصلة الرحم، وعيادة المريض، وتشييع الجنازة، والتهنئة في الخير، والتعزية عند البلاء.

وهذا من إسباغ الوضوء على المكاره، بل هذا هو الإسباغ الحقيقي، فعند أن أتوضأ، لا ينبغي أن أكتب خطاباً لهيئة معينة يدخل به إنسان السجن ظلماً، أو أن أكتب كلمة أسيء بها إلى عائلة أو إلى أسرة أو إلى بلد ظلماً وعدواناً، بل هذا الفم الذي يتمضمض لا ينبغي أن يخرج منه هذا أبداً.

فالفم الذي يخرج منه القرآن لا يصلح أن يخرج منه شيء آخر.

<<  <  ج: ص:  >  >>