للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حاجتنا مع الله حالة وهالة]

فنحن لنا مع الله حاجتان: حالة وهالة.

فالحالة نوعان: إما حالة إيمانية، أو حالة تمردية عصيانية، وهذا كما يقال: أعلنوا التمرد العام أو العصيان المدني، فنحن مع الله في إحدى حالتين: حالة إيمانية تقترب فيها من رب العباد كلما ازداد العمر ومضت السنين، وكلما ذقت حلاوة الهداية والطاعة ورقة القلب عندما تقترب من الله، أو حالة تمردية عصيانية تدخل بها في دائرة إبليس، قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام:١٤٢]، وقال: {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:٦]، ويأتي إبليس بعد ذلك ويتبرأ: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:٢٢]، فشخص يقول لك: ضع نفسك تحت القطار، أو اشرب هذا السم فتشرب، أو ارم نفسك من الدور العاشر فترمي بنفسك، لم يكن له عليك من سلطان إلا أن دعاك، فلم أُشربك السم رغماً عنك، ولم أضعك على سكة القطار رغماً عنك، ولا جعلتك تقتل نفسك رغماً عنك، ولكن بمجرد أن دعوتك دعوة استجبت لي، وهذا مثل الولد الفاشل إذا قيل له: تعال نلعب قليلاً استجاب، فزميله ليس له سيطرة عليه إلا أنه زين له اللعب، فإذا ما جاءت نهاية السنة فشل وسقط، فإذا قال له: أنت السبب، قال له: ليس لي دخل فيك، إنما دعوتك إلى اللعب فاستجبت لي، ولم أمسك بك لكي تلعب، ولم أهددك أبداً، وإنما استجبت لي بمحض إرادتك.

ثم يترتب بعد ذلك على هذه الحالة هالة، والهالة نوعان: هالة مضيئة إذا كنت في حالة إيمانية، وهالة مظلمة قاتمة لا ترى فيها سبيل الهداية إن كنت متمرداً عاصياً؛ ولذلك تسمع أن فلاناً عليه هالة من النور، أو فلاناً في جبينه نور، أو فلاناً في وجهه السماحة، بينما فلان من أهل المعصية عليه غبرة، رجل ليس فيه نور، إذا تكلم لم يسمعه أحد، إذا خرج كلامه من لسانه لم يتجاوز الآذان، فالهالة إذاً مترتبة على الحالة.

وفي الآخرة تنير حالتك الإيمانية طريقك على الصراط -اللهم أضئ لنا طريقنا يا رب العالمين-، فإذا كنت مستقيماً على طريق الله في الدنيا تأتي على الصراط وهو مظلم ومن تحته جهنم -والعياذ بالله نسأل الله السلامة- وجهنم مظلمة لا يرى الإنسان فيها نوراً، فالذي يظلك في هذا الوقت هالتك الإيمانية، وكل إنسان على قدر إيمانه.

فمثلاً: تجد أن الإنسان إذا كان غنياً في الدنيا يصنعون له صيواناً عند موته، يأتي المهندس فيقال له: نريد الكثير من قناديل الإضاءة، والمهندس عليه التوصيل الكهربائي، فتضاء القناديل كلها، ويكون الصيوان كضوء النهار، بينما الآخر المسكين ليس معه عند موته سوى قنديلين أو ثلاثة، وهكذا المؤمن كلما ازداد إيمانه ازدادت هالته الإيمانية النورانية فأضاءت له على الصراط، كما وصف الحبيب أن من الناس من يضيء له إيمانه على قدر إبهامه، يعني: قدر إبهام إصبع رجله، مثل بطارية الدكتور الصغيرة الخاصة بالأنف والأذن والعيون، شيء على قدر الحاجة يفي بالغرض.

قال تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:٢٠] يعني: أن الصراط مظلم، وهذا هو حال من يصلي من رمضان إلى رمضان، ومن الجمعة إلى الجمعة فقط، وكلما مات له قريب قال: سأتوب وسأصلح حالي، فهذا الإنسان يضاء له على الصراط قليلاً ثم ينطفئ ضوءه، قال تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة:٢٠] لأنه رأى طريقه، قال: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:٢٠] لأنه لا يرى أمامه فيوشك أن يقع في جهنم.

وقال صلى الله عليه وسلم: (ومنكم من يضيء له إيمانه كضوء الهلال) يعني: كالشهر في أوله، (أو المحاق)، وهو الشهر في آخره، (ومنكم من يضيء له إيمانه كضوء القمر ليلة التمام، ومنهم من تناديه النار: يا مؤمن! أسرع بالمرور من فوقي فإن نورك غطى على ناري) سبحان الله! إذاً: هذه هي الهالة الإيمانية، اللهم أنر لنا الدنيا والآخرة بالإيمان يا رب! فأنت مع الله عز وجل في قضية الأدب لا تكسر أمراً ولا ترتكب منهياً، هذا هو الإطار العام.

ولقد كان أنبياء الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام في قمة الأدب مع الله عز وجل، وهناك صور شتى: فسيدنا إبراهيم، والرجل الصالح الذي يقال له الخضر عليه السلام الذي التقى به الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وسيدنا يوسف كيف تعلمنا منه الأدب عندما التقى بأبيه وإخوته، قال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:١٠٠] مع أن الورطة الكبرى كانت في إخراجه من الجب وهو البئر، لكن لو أنه قال: (إذ أخرجني من الجب) لكان فيه جرح لمشاعر إخوته، لكن من أجل صفاء القلوب لم يذكر هذا الأمر.

فالنفوس مثل الحوض أو البئر الذي فيه ماء معكر، ومع مرور الوقت أو الزمن ينزل التعكير إلى الأسفل، فمن باب المصلحة أن نأخذ كوباً منه أو إناء من حافة الحوض دون تحريك العكارة، وهذا من باب الأدب.

قال رجل للحسن البصري: يا بصري! تعال لنتعاتب -يعني: نجلس مع بعضنا جلسة عتاب- قال: كلا! قل: تعال لنتغافر.

يعني: لا نريد أن نجلس للعتاب ولكن للمغافرة.

وتقول العرب في أمثالها: أنت تئق وأنا مئق فمتى نتفق؟! وتئق يعني: رجل سريع الغضب، وأنا مئق: يعني سريع الاندفاع، يعني: أنك لا تتحمل وأنا لا أستطيع أن أمسك نفسي، إذاً: من اللازم أن أخفف من حدة انفعالي، وأن تخفف من حدة توترك وتلقيك للمسألة.

والسلف الصالح كانوا في قمة الأدب مع الله في مسألة الوقت، وقد علمنا أهل العلم رضي الله عنهم: أن من الحقوق في الأوقات ما يمكن قضاؤها، ومن حقوق الأوقات ما لا يمكن قضاؤها.

المثال الأول: أن يدخل وقت الظهر فأقوم للصلاة، فهذا حق الوقت في الظهر، وإذا انقضى وقت الظهر أصليه قضاءً، فإذا دخل وقت العصر ولم أصله بعد والشمس سوف تغرب فمن الواجب أصليه، فقبل أن أنام لابد أن أصلي خمس صلوات، والصلوات على أوقاتها من أفضل القربات، لكن الإنسان أحياناً قد يؤخر الوقت، أو تأتيه ظروف تضطره لتأخير الصلاة فيدخل وقت على وقت، وهذا لا يستوي مع الذي يؤديها في نفس الوقت.

أما حقوق الأوقات مما لا يمكن قضاؤها فمثل اليوم الذي يفوت من غير طاعة، أو سنة أو سنتين تمر عليك ولم تطع الله فيها، فهل تستطيع أن تستعيد هذا الزمن مرة أخرى؟ وهل ما فات حجة لك أم عليك؟ اللهم اجعله حجة لنا لا علينا يا رب العالمين! إذاً: هذه بعض من صور الأدب مع الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>