للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان سبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم، وذكروا أجوبة عن ذلك، منها: ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر رضي الله عنه: (أكره أن يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه)، ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب].

أي أن الناس يفرون من الإسلام؛ لأنهم لا يدرون ولا يعلمون بحال المنافقين، فإذا قتل المنافقون وهم يظهرون الإسلام ويعيشون بين المسلمين قال من لا يعلم بحالهم: محمد يقتل أصحابه! فلذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتلهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يعلمون حكمة قتله لهم، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم، فيقولون: إن محمداً يقتل أصحابه.

قال القرطبي: وهذا قول علمائنا وغيرهم، كما كان يعطي المؤلفة مع علمه بسوء اعتقادهم.

قال ابن عطية: وهي طريقة أصحاب مالك، نص عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وعن ابن الماجشون، ومنها ما قال مالك: إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه].

وهذا قول آخر فيما يتعلق بترك قتل المنافقين، إذ القول الأول هو أنه ترك قتلهم لئلا ينفر الناس من الإسلام، والثاني له تعلق بالحكام والقضاة، وهو أن الحاكم لا يحكم بعلمه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنهم منافقون، ولكن لم يحكم فيهم بعلمه.

ومثال ذلك: إذا كان القاضي في البلد يعلم أنه حصل من فلان كذا وكذا، ثم جاءوا يتخاصمون إليه، وهو يعلم أن هذا الشخص له حق على هذا الشخص وأنكر، ولم يكن عند المدعي بينة، فهل يحكم بعلمه أم لا يحكم بعلمه؟

و

الجواب

لا يحكم بعلمه ولو كان يعلم، فيقول للمدعي: ائت بالبينة.

فإن لم يكن له بينة توجهت اليمين على المدعى عليه، ولا يحكم بعلمه، والمسألة خلافية، وفيها كلام بين أهل العلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام.

قال: ومنها ما قال الشافعي: إنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم؛ لأن ما يظهرونه يجب ما قبله.

ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل).

ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهراً، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا وكونه كان خليط أهل الإيمان].

وهذا أمر مشترك، وهو أن من أظهر الإسلام فإنه تجرى عليه أحكام الإسلام، فيعامل معاملة المسلمين في الزواج، وفي الصلاة عليه إذا مات وتغسيله ما دام أنه يظهر الإسلام، وإن كان يبطن الكفر، لكن لا ينفعه هذا في الآخرة، ولا يعصمه من النار.

فهنا أقوال ثلاثة في شأن ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين: الأول: خشية حصول التنفير عن الإسلام.

الثاني: أن القاضي لا يحكم بعلمه.

الثالث: أن الأحكام تجرى على الظاهر، وقد أظهروا الإسلام فتجرى عليهم، ولا ينظر إلى معتقدهم، ولهذا جاء في قصة الرجل الذي استاذه النبي صلى الله عليه وسلم في قتل رجل من المنافقين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أليس يصلي؟ قال: بلى ولا صلاة له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم)، وفي اللفظ الآخر: (إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم).

فالأحكام تجرى على الظاهر، والسرائر موكولة إلى الله.

وأما الصلاة على المنافق فقد ورد فيها قول الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة:٨٤].

وقد نزلت هذه الآية بعد أن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي، ولكن ترك الصلاة عليه هو فيما إذا عرف كفره، لقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:٨٤] فمن عرف كفره ونفاقه لا يصلى عليه، ومن لم يعلم حاله فإنه يصلى عليه.

ومن هذا أخذ العلماء أنه يصلى على الفاسق؛ لأنه لا تنطبق عليه هذا العلة، فيصلى على الفاسق ويصلى خلفه على الصحيح.

وإنما نهي عن الصلاة على الغال وقاتل نفسه من قبل أعيان الناس تنفيراً للأحياء من فعله، والفاسق إذا لم يوجد غيره، أو كان هو إمام المسلمين، أو كان يترتب على ترك الصلاة خلفه مفسدة فإنه يجوز أن يصلي خلفه.

فإن وجد غيره فهل يصلى خلفه؟ اختلف العلماء في الصلاة خلف الفاسق على قولين: فالحنابلة والمالكية يرون أنه لا تصح الصلاة خلفه، والشافعية والحنفية يرون صحة الصلاة خلفه.

والصواب أن الصلاة خلفه صحيحة، والذين منعوا من الصلاة خلفه قالوا: لأنه يجب إنكار المنكر، ومن إنكار المنكر أن لا يصلى خلفه.

ولكن الصواب الذي عليه المحققون أن تلبس المصلي بعدم الإنكار أمر خارج عن الصلاة.

والقاعدة عند المحققين: أن المنهي عنه إذا كان خارجاً عن الصلاة فإنه لا يؤثر في الصلاة، كما لو صلى في ثوب مغصوب أو صلى في ثوب فيه صورة، أو صلى في أرض مغصوبة، أو توضأ بماء مغصوب، فتصح الصلاة على الصحيح من أقوال العلماء.

وذهب الشافعي وجماعة إلى أن من صلى في ثوب مغصوب، أو صلى في ثوب فيه صورة، أو صلى في أرض مغصوبة لا تصح صلاته، والصواب أنها تصح، فله ثواب الصلاة وعليه إثم الغصب؛ لأن الجهة منفكة، بخلاف ما نهي عنه في الصلاة بخصوصها، فلو صلى في ثوب نجس لا تصح صلاته بالاتفاق؛ لأن الثوب النجس لو لبسه في غير الصلاة صح، بخلاف ثوب الحرير، فلا يجوز لبسه في الصلاة ولا فيها، والمغصوب لا يجوز في الصلاة ولا خارجها.

أما الثوب النجس فإنه منهي عنه بالخصوص، فلا تصح الصلاة به؛ لأن المصلي يجب عليه أن يكون ثوبه طاهراً وبدنه طاهراً والبقعة التي يصلي عليها طاهرة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهراً، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا وكونه كان خليط أهل الإيمان {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [الحديد:١٤] الآية، فهم يخالطونهم في بعض المحشر فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:٥٤] ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث.

ومنها ما قاله بعضهم أنه إنما لم يقتلهم لأنه كان لا يخاف من شرهم مع وجوده صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يتلو عليهم آيات الله مبينات، فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون].

قال العلماء: من سب النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته يقتل، ولا يعفى عنه، أما في حياته فإنه قد يعفو عن بعض المنافقين وعن بعض من يؤذونه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مالك: المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم.

قلت: وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا؟ أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا؟ أو يتكرر منه ارتداده أم لا؟ أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه؟ على أقوال متعددة موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام].

من العلماء من قال: إن الزنديق لا تقبل توبته في الدنيا، أما في الآخرة فالأمر بينه وبين الله، فالله تعالى يقبل توبة الصادقين، لكن في الدنيا لا بد من أن يقتل.

وقالوا: الزنديق والمنافق والساحر والساخر الذي يسخر من الدين وأهله، ومن تكررت ردته هؤلاء يقتلون في أحكام الدنيا ولا يستتابون، زجراً للناس عن هذا الكفر الغليظ، بخلاف المرتد بغير هذه الأمور.

وقال آخرون من أهل العلم: إنه يستتاب أيضاً ولو كان كفره بالنفاق أو بتكرار الردة.

وهذا محل نظر في التأمل عند الحاكم الشرعي.

وحجة من قال: لا تقبل توبته أن علم الساحر لا ينزع من نفسه ولو ادعى التوبة، فلا بد من أن يقتل، لكن قال آخرون: بل ينظر، فإذا أظهر التوبة علينا أن نتركه حتى يظهر نفاقه مرة أخرى.

وقوله: [على أقوال متعددة موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام]، هو كتاب الحافظ ابن كثير في الأحكام.