للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات)]

قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٢٥].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء، كما سنبسطه في موضعه].

مثاني: يعني تثنى فيه القصص والأخبار، وتذكر فيه صفة أهل الجنة، ثم بعدها صفة أهل النار، ويذكر فيه حال السعداء وحال الأشقياء، وتثنى فيه قصة موسى عليه السلام، وقصة إبراهيم، كذلك قصة ثمود قوم صالح.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه، وحاصله: ذكر الشيء ومقابله، وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه إن شاء الله].

ذكر الشيء ومقابله كالسعداء يقابلهم الأشقياء، والمؤمنون يقابلهم الكفار.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:٢٥] فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار، أي: من تحت أشجارها وغرفها، وقد جاء في الحديث: (أن أنهارها تجري في غير أخدود) وجاء في الكوثر: (أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف)، ولا منافاة بينهما، فطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم.

وقال ابن أبي حاتم: قرأ عليَّ الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا أبو ثوبان عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنهار الجنة تفجر من تحت تلال -أو من تحت جبال-المسك)، وقال أيضاً: حدثنا أبو سعيد حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال: قال عبد الله: أنهار الجنة تفجر من جبل مسك].

والمسك أحسن أنواع الطيب، وأنهار الجنة تفجر من تحت جبال المسك، نسأل الله من فضله، ثم أيضاً مسك الآخرة ليس كمسك الدنيا، فالمسك في الدنيا الآن من أحسن أنواع الطيب؛ ولهذا فإن المسك يؤخذ أصلاً من دم الغزال، من ورمة تخرج في الغزال تسقط وتؤخذ ثم تشق، وتسمى الفأرة مثل الكرة يخرج منها المسك، ولهذا يقول الشاعر يمدح بعض الخلفاء: فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال تخرج ورمة في الغزال مثل الكرة، ثم تسقط أو تؤخذ، فإذا فتحت في وسطها المسك.

قال ابن أبي حاتم: قرئ على الربيع بن سليمان قال في الحاشية: هو أبو محمد الربيع بن سليمان المرادي، قال ابن أبي حاتم: سمعناه منه وهو صدوق ثقة.

إذاً: يحتمل أنه قرئ عليه وهو يسمع، ويكون من القراءة؛ لأن القراءة على الشيخ أو السماع من الشيخ نوعان: نوع يقرأ التلميذ والشيخ يسمع، وأحياناً يقرأ الشيخ والتلميذ يكتب، أو يقرأ وهو يسمع ويكون مع غيره، كما يقول الإمام مسلم: حدثنا، يعني: مع غيره، ومحتمل أنه قرأ هو عليه، وعلى هذا يكون من شيوخه، ويحتمل أنه قرأ عليه أحد أقرانه وهو يسمع.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:٢٥]، قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قالوا: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:٢٥]) قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة، فلما نظروا إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، وهكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ونصره ابن جرير.

وقال عكرمة: (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) قال: معناه: مثل الذي كان بالأمس، وكذا قال الربيع بن أنس وقال مجاهد: يقولون ما أشبهه به، قال ابن جرير: وقال آخرون: بل تأويل ذلك: هذا الذي رزقنا من قبل ثمار الجنة من قبل هذا؛ لشدة مشابهة بعضه بعضاً لقوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:٢٥] قال سنيد بن داود: حدثنا شيخ من أهل المصيصة عن الأوزاعي].

المصيصة بالتشديد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: يؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء فيأكل منها].

والصحفة هي الإناء الذي يوضع فيه الشيء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم يؤتى بأخرى فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل، فتقول الملائكة: كل، فاللون واحد، والطعم مختلف].

وسنيد بن داود بن السجزي: اسمه حسين، وهو ضعيف مع إمامته ومعرفته، لكونه كان يلقن الحجاج بن محمد وسنيد يحتمل أين يكون لقباً.

وخبره فيه جهالة؛ لأنه حدث عن شيخ من أهل المصيصة مجهول ومبهم، إذاً: فالخبر ضعيف لكنه يتقوى بالآثار الأخرى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عامر بن يساف عن يحيى بن أبي كثير قال: عشب الجنة الزعفران، وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ثم يؤتون بمثلها، فيقول لهم أهل الجنة: هذا الذي أتيتمونا آنفاً به، فتقول لهم الولدان: كلوا، فاللون واحد، والطعم مختلف.

وهو قول الله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:٢٥].

وقال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:٢٥] قال: يشبه بعضه بعضاً ويختلف في الطعم.

قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك.

وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة، في قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:٢٥] يعني: في اللون والمرأى، وليس يشتبه في الطعم.

وهذا اختيار ابن جرير].

وهذا هو الأقرب، فهم يؤتون بأنواع الفواكه والأطعمة، وتتشابه في اللون وتختلف في الطعم واللذة والرائحة، قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل أي: في الجنة.

أما القول بأن قوله تعالى: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:٢٥] يعني: في الدنيا فهو قول مرجوح، فأهل الجنة يؤتون مثلاً بالفواكه والأطعمة اليوم، ثم يؤتون بها غداً، فيقولون: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:٢٥]، أي: بالأمس، وذلك أن التشابه موجود في اللون، ولكن الطعم واللذة والرائحة مختلف.

نسأل الله الكريم من فضله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عكرمة {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:٢٥] قال: يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب.

وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس: لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء].

فإن في الجنة نخيلاً، وفي الدنيا نخيلاً، وفي الجنة أعناباً وفي الدنيا أعناباً، لكنها تختلف عن بعضها، فنخيل الجنة ليست من الحطب ولا من الخشب، بل من الذهب، وكذلك اللون والطعم والرائحة فإنه مختلف، فقوله: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا في الأسماء، أي: لا يتفقان إلا في الأسماء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي رواية: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، ورواه ابن جرير من رواية الثوري وابن أبي حاتم من رواية الثوري وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش به، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:٢٥]] قال: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا: التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان، قالوا في الجنة: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:٢٥] في الدنيا، {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:٢٥]، يعرفونه وليس هو مثله في الطعم].

إذاًَ: ففي معنى الآية قولان لأهل العلم: القول الأول: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:٢٥] أي: في الدنيا.

والقول الثاني: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:٢٥] أي: في الجنة قبل أمس، وهذا اختيار ابن جرير وهو الأقرب، فالتشابه في اللون، أما الطعم واللذة والرائحة فمختلفة، أما ما في الدنيا فيشبهه في الاسم فقط،