للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر اختلاف المفسرين في معنى العهد الذي وصف الفاسقون بنقضه]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمراد به من الآية الفاسق الكافر والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:٢٧]، وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين كما قال تعالى في سورة الرعد: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:١٩ - ٢١] الآيات، إلى أن قال: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:٢٥]، وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه، فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.

وقال آخرون: بل هي في كفار أهل الكتاب، والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه: هو ما أخذ الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك: هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته، وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلا.

وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مقاتل بن حيان].

وهذا هو القول الثالث.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية: جميع أهل الكفر والشرك والنفاق، وعهده إلى جميعهم في توحيده: ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه: ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا: ونقضهم ذلك: تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق، وروي عن مقاتل بن حيان أيضاً نحو هذا، وهو حسن، وإليه مال الزمخشري فإنه قال: فإن قلت: فما المراد بعهد الله؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد، كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم، وهو معنى قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:١٧٢] إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:٤٠].

وقال آخرون: العهد الذي ذكره تعالى: هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:١٧٢] الآيتين].

وهذا هو القول الرابع.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونقضهم ذلك: تركهم الوفاء به.

وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضاً، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره].

والراجح هو القول الأول.

وهو أن المراد وصية الله وعهده إلى جميع عباده من المؤمنين والكفار، عهد إليهم أن يستجيبوا لأمره، وأن يتبعوا الرسل، وأن ينقادوا لشرعه وأوامره ونواهيه.

والقول الثاني: أنه في أهل الكتاب.

والثالث: أنه في جميع الكفار.

والرابع: أنه الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم حين أخرجهم من صلب أبيهم آدم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:٢٧] إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:٢٧] قال: هي ست خصال من المنافقين، إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا.

وكذا قال الربيع بن أنس أيضًا.

وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:٢٧] قال: هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه].

وهذا هو القول الخامس أي: شرك المنافقين.

فالأقول كلها إذاً قيل: إنها في أهل الكتاب، وقيل في جميع الكفار، وقيل: في المنافقين.

وقيل: إن المراد به الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم وهو أشمل، وقيل: إنها وصية الله إلى جميع الناس.