للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما تنال به الإمامة]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بـ عمر بن الخطاب، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته، أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور].

وهذا الكلام فيما تكتب فيه الإمامة، فقال بعضهم بالنص، وذلك كخلافة أبي بكر، وخلافة الصديق اختلف العلماء في ثبوتها، فمنهم من قال: أنها تثبت بالنص، ومنهم قال: ثبتت باختيار الناس له وانتخابه.

والذين قالوا: إنه بالنص اختلفوا، فمنهم من قال: بالنص الجلي، ومنهم من بالنص الخفي، والصوب أنها ثبتت بالاختيار والانتخاب من الصحابة، وأهل الحل والعقد.

ويدل على ذلك أمور: الأمر الأول: أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أسرع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة، واختاروا خليفة منهم هو سعد بن عبادة، وأسرع المهاجرون وأراد عمر رضي الله عنه أن يتكلم، وزور في نفسه كلاماً فأسكته أبو بكر وتكلم هو وقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، إن الناس لا يدينون إلا لهذا الحي من قريش، وقد رضيت لكم أحد أمرين، فبايعوا عمر أو أبا عبيدة، قال عمر: بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله، فبايعه، ثم تتابع الناس فبايعوه.

فلو كان هناك نص لذكره عمر في هذا المقام الحرج في الاختلاف، وذكره الصديق، ولم يعلل بالسيادة والوزارة فدل ذلك على أنه ليس هناك نص.

والأمر الثاني هو أن عمر رضي الله عنه لما طعن قال له للناس: استخلف، فقال: إن استخلف، فقد استخلف من هو خير مني، يعني: أبا بكر، وإلا استخلف فلم يستخلف الذي هو خير مني يعني: رسول الله، قال هذا في جمع من الصحابة، ولم ينكروا عليه، ولو كان هناك نص لأنكروا ذلك، مما يدل على أن الصواب هو أن الصحابة اختاروا أبا بكر لأدلة أرشدتهم إلى ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر في مرض موته في الصلاة، ففهم الصحابة أنه هو الخليفة، وأنه هو الأحق بالخلافة، قال: (مروا أبو بكر فليصل بالناس)، وكذلك الأدلة التي تدل على فضائله.

والإمامة تثبت بواحدة من الأمور الثلاثة: الأمر الأول: الانتخاب والاختيار، كما ثبتت الخلافة لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، إذ ثبتت له الخلافة باختيار أهل الحل والعقد، وإذا كان الاختيار للمسلمين فإنهم يختاروا من توفرت فيه الشروط، ومنها: أن يكون قرشياً، فالإمامة تكون في قريش إذا وجد منهم من يقيم الدين، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال هذا الأمر في قريش)، وفي لفظ: (ما أقاموا الدين)، وفي لفظ: (بقي منهم اثنان)، فدل على أن الخلافة تكون في قريش، إذا وجد منهم من يقيم الدين، فإن لم يوجد منهم من يقيم الدين، يختار من غيره بهذا الخير، وذلك إذا كان الاختيار والانتخاب للمسلمين ولأهل الحل والعقد.

والأمر الثاني: تكون الخلافة بولاية العهد من الخليفة السابق، كما استخلف الصديق رضي الله عنه، عمر، وعهد بالخلافة إلى عمر فثبتت له الخلافة.

والأمر الثالث: بالقوة والغلبة، فإذا غلب الناس بالقوة ثبتت له الخلافة، فإن جاء آخر ينازعه وقد اجتمعوا على الأول قتل الثاني، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من جاءكم وأمركم جميع فاقتلوه كائناً من كان)؛ لأن الثاني أراد أن يفرق الأمة، فإذا غلب أحد الناس بالقوة ثبتت له الخلافة، ولو لم يكن من قريش، ويدل على ذلك حديث إسحاق بن أبي بر: (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف - وفي لفظ - ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة).

وجميع الولايات الآن ومن قبلها خلافة بني أمية، وبني العباس كلها كانت بالقوة والغلبة.

ولم تكن الخلافة بالاختيار والانتخاب إلا في اثنين من الخلفاء الراشدين فقط، وهم: الصديق، وعثمان، حيث ثبتت له الخلافة باختيار المسلمين وانتخابهم، إذ جعل عمر الشورى بين ستة، ثم في النهاية أجمعوا على اختيار عثمان رضي الله عنه.

أما علي رضي الله عنه فثبتت له الخلافة باختيار أغلب أهل الحل والعقد، ونازعه في هذا معاوية وأهل الشام فلم يبايعوه؛ لا لأنهم لا يرون أنه ليس أهلاً للخلافة، أو لأن معاوية يطلب الخلافة لنفسه، بل لأنهم يطالبون بدم عثمان فقط.

وعلي رضي الله عنه لا يمانعهم، ولكنه كان يقول: لا يمكن الآن أن نقتص من قتلة عثمان؛ لأن الوقت وقت فتنة، ولا يعرف أحد بعينه، وهناك من تنتصر له قبيلته، فإذا هدأت الأمور أمكن أن نأخذ بدمه، لكن معاوية وأهل الشام قالوا: إذا ترك القتلة فسيستشري الفساد، ويزيد شرهم وفسادهم، ولأنهم سوف يتعدون إلى غيره فيقتلون آخرين، وعلي رضي الله عنه يرى أنه هو الخليفة إذ بايعه أكثر أهل الحل والعقد، وأنه يجب على معاوية وأهل الشام أن يطيعوه، وأنهم ليسوا من المؤلفة قلوبهم، فرأى أن الواجب إخضاعهم، فنشأ النزاع.

وأكثر الصحابة انضموا إلى علي رضي الله عنه، وعلموا أنه محق، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:٩]، فأهل الشام ومعاوية بغاة، لكن لا يعلمون أنهم بغاة، ويدل على أنهم بغاة قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار: (ويح عمار، تقتله الفئة الباغية)، فقتله أهل الشام، لكنهم مجتهدون ولا يعلمون أنهم بغاة.

وأشكل هذا الأمر على بعض الصحابة كـ أبي بكرة وأسامة بن زيد وسلمة بن الأكوع وغيرهم وخافوا من الأدلة التي فيها القتال في الفتنة، واستدلوا بالنصوص التي فيها أن الإنسان يجتنب الفتنة، وأنه إذا كان قائماً فليقعد وإذا كان قاعداً فليضطجع فاعتزلوا الفريقين، والصواب مع علي رضي الله عنه.

وترك ابن عمر فما بايع أبداً حتى انتهى الخلاف، وبويع لـ معاوية رضي الله عنه، واجتمع الناس عليه، فبايعوا وأمر أولاده أن يبايعوه، فسمي العام عام الجماعة.

فـ علي ومن معه مجتهدون ومصيبون لهم أجران، ومعاوية وأهل الشام مجتهدون ومخطئون، فلهم أجر في الاجتهاد وفاتهم أجر الصواب، رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً، فهم ما بين مجتهد مصيب له أجران، ومخطئ له أجر.

والمقصود أن الخلافة ثبتت في الصديق بالاختيار والانتخاب على القول المختار.

وقال بعض العلماء: ثبتت بالنص الجلي، وقال آخرون: ثبتت بالنص الخفي، والذين استدلوا بالنص عموماً، قالوا: إن من النص قول النبي صلى الله عليه وسلم (ائتوني بدواة أكتب لكم كتاباً حتى لا تضلوا، فلما اختلفوا قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر).

هذا إخبار عن المستقبل، يعني يأبى الله قضاءً وقدراً والمسلمون اختياراً وانتخاباً إلا أبا بكر، وكذلك الرؤيا المنامية التي فيها (أن النبي صلى الله عليه وسلم وزن بـ أبي بكر فرجح، ثم وزن أبو بكر بـ عمر فرجح، ثم وزن عمر بـ عثمان فرجح)، وكذلك الرؤيا المنامية الأخرى التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت أني أنزع بدلو وفيه: فجاء أبو بكر فنزع نزعاً ضعيفاً، ثم استحالت غرباً فنزعها عمر بن الخطاب) فقالوا: هذه خلافة النبوة رتبها النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذه الأدلة كلها ليست صريحة وليست نصاً، وإنما هي مبشرات وكشف للمستقبل، وإرشاد للمسلمين أن يختاروا أبا بكر.

وليس المراد بأهل الحل والعقد أهل هذه الانتخابات التي تسمعون في هذه الأيام فهذه الأصوات كلها باطلة، فالسفهاء والأطفال والنساء، ليس لهم شيء، وإنما أهل الحل والعقد هم رؤساء القبائل والعشائر وأهل الفضل، وأولو العقول، الذين إذا بايعوا نابوا عن غيرهم، أما هذه الانتخابات والأصوات فكلها جاهلية، ثم أيضاً يدخلها الرشوة، والإجبار على الأصوات، فكلها باطلة، وليس فيها تحكيم للشريعة من الأساس.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بـ عمر بن الخطاب، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته، أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور، وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، والله أعلم].

قوله: (أو بمبايعة أحد منهم له)، هذا قول من الأقوال، ولا يكفي مبايعة واحد، بل لا بد من مبايعة أهل الحل والقعد كلهم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف.

وقد نص عليه الشافعي.

وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف، فمنهم من قال: لا يشترط، وقيل: بلى ويكفي شاهدان.

وقال الجبائي: يجب أربعة وعاقد ومعقود له، كما